لندن | أغلق المزارعون في فرنسا، خلال الأيام الماضية، العديد من الطرق السريعة عبر الجمهورية، وأعاقوا حركة الشحن البرّي، على نحوٍ تسبّب بانقطاع إمدادات المواد الغذائية والاستهلاكية والوقود، في ما بدا كتحدٍّ متدحرج لحكومة رئيس الوزراء الجديد، غابرييل أتال. وأجبرت هذه التحركات، باريس، على اتّخاذ قرارات لامتصاص غضب المزارعين، فزادت من ضغوطها على المفوّضية الأوروبية لمعالجة أسباب المظالم التي يشتكون منها، بما في ذلك المنافسة مع الواردات من أوكرانيا، واتّفاق تجاري يجري التفاوض عليه مع مجموعة دول في أميركا اللاتينية، وأيضاً التضخّم غير المسبوق في تكاليف المعيشة والإنتاج، بما فيها تكلفة الديزل الزراعي الضروري لتشغيل مكننة المزارع والآليات.كذلك، رتّب أتال زيارة عاجلة لمزرعة في الجنوب الغربي من البلاد، حيث استعرض سلسلة من الإجراءات التي ستتبنّاها حكومته، فيما تعهّد الرئيس إيمانويل ماكرون علناً بالدفاع عن مصالحهم، وإنْ كان أرفق هذا بالتحفُّظ عن مهاجمة «السادة» في بروكسل (مقر المفوّضية والاتحاد الأوروبيَّيْن). ونقلت الصحف الفرنسية عن ماكرون، قوله إن مصالح المزارعين الفرنسيين لن تتحقَّق «من خلال معارضة بروكسل أو الإشارة إليها باعتبارها الجاني»، ولكن من خلال المطالبة بإصلاح سياسات الاتحاد، معتبراً أن أوروبا بمجموعها، «ينبغي أن تكون لديها سياسات تتوافق مع مبدأ السيادة الغذائية التي ندافع عنها». ومن هنا، تمنّى على بروكسل ألّا توقّع اتفاق التجارة الحرّة مع مجموعة دول الـ»ميركوسور» في أميركا اللاتينية بصيغته الحالية، والتي ترفع القيود عن واردات من الأرجنتين والبرازيل وأورغواي وباراغواي، و»قد لا تتوافق بالضرورة مع معايير الاتحاد الأوروبي الصحيّة الصارمة» التي تُفرض على إنتاج المزارعين في القارّة، وتزيد من التكاليف.
ويشتكي المزارعون الفرنسيون من تراجع ملموس في عوائد القطاع الزراعي بسبب ارتفاعات غير معهودة في تكاليف الإنتاج، في موازاة تآكل القدرة الشرائية لدى غالبيّة المستهلكين. وتريد باريس أيضاً تطبيق لوائح جديدة من الضرائب والرسوم تتضمّن رفعاً للدعم الذي يتلقّاه القطاع عن الديزل المخصّص للمعدات والآليات الزراعية، في الوقت الذي تدفع فيه بروكسل إلى فرض سياسات عبر القارّة من قَبيل التزام المزارع الأوروبية بتخصيص ما لا يقلّ عن 4% من الأراضي الصالحة للزراعة لمحاصيل غير تجارية لتحسين التنوّع البيولوجي، وتقليل استخدام الأسمدة بنسبة 20% على الأقلّ، بالإضافة إلى اشتراط إجراء تناوب للمحاصيل، وغيرها من الإجراءات التي تفرض مزيداً من التكاليف على المزارعين.
خشية من توسُّع الغضب لتشمل العاملين في التربية والصحة و البناء والنقل


ومع أن هذه المظالم تبدو متعلّقة بهموم القطاع الزراعيّ حصراً، إلّا أنها تعكس إحباطاً عاماً يسود المشهد الأوروبي برمّته، تتشارك فيه الطبقات الوسطى مع تلك العاملة، بعدما تراجع مستوى الرفاه الاجتماعي خلال عقد ونصف عقد إلى مستويات تعود إلى أيام البؤس خلال الحرب العالمية الثانية، بفعل حالة التضخّم المفرط، خلال العامَين الماضيَين، والتي مسّت بمستوى العيش اليومي لملايين الأوروبيين ممَّن يقبعون في أدنى الهرم الاجتماعي، على جانبَي خط الفقر.
وإذا كان غضب جمهور المتضرّرين قد أفضى إلى تصعيد التيارات اليمينية، فإن هذه انتهت إلى الانخراط تماماً كما غريمتها الليبرالية، في دعم المجهود الحربي الغربي في أوكرانيا، وذلك من خلال رصد المليارات لمصلحة نظام كييف على حساب الميزانيات العامّة، في موازاة عشر جولات من العقوبات التجارية والمالية على روسيا، والتي سرعان ما ارتدّت على الأوروبيين على شكل تضخّم غير مسبوق في تكاليف الطاقة والكيميائيات والنقل، ودفعت باقتصادات كانت مزدهرة حتى وقت قريب، نحو هاوية كساد ونمو سالب. ويدرك الجمهور الأوروبي، الآن، وفي طليعته المزارعون، بأن حكوماته، بيمينها ويسارها، ليست سوى أدوات محلّية لا تمتلك قرارها، وأن الخصم الحقيقي لها ليس سوى بروكسل، التي سحقت بشكل متدرّج كل مساحة للسيادة الوطنية للدول الأعضاء في الاتحاد.
ويأتي «حصار باريس» بالجرارات الزراعية بعد تحرّكات واسعة نفّذها مزارعون أوروبيون في ألمانيا وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا، احتجاجاً على سياسات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك القرار الذي فرضته بروكسل في عام 2022 لفتح أسواق القارة أمام المحاصيل الأوكرانية - ولا سيما الحبوب والسكر والبيض ولحوم الدواجن - ذات الأسعار المنافسة، والتي تهدّد الآن بدفع ملايين المزارعين الأوروبيين الصغار إلى حافة الإفلاس.
وقد امتدّت الاحتجاجات إلى بلجيكا نفسها، حيث تحرّك المزارعون بجرّاراتهم وأغلقوا ميناءً رئيسياً في البلاد، واصطفّت طوابير طويلة منها في الشوارع في وسط العاصمة بروكسل قريباً من مقر البرلمان الأوروبي، وقطعت طرقاً تربط البلاد بفرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ.
وبينما نجا جنوب أوروبا، إلى الآن، من فوضى الاحتجاجات، إلّا أن الأمور قد تتغيّر قريباً، إذ يُتوقّع أن ينظّم المزارعون الإيطاليون والبرتغاليون والإسبان قريباً احتجاجاتهم الخاصة المرتبطة أكثر بتغييرات المناخ. وتريد حكومتا مدريد ولشبونة فرض قيود طارئة على استخدام المياه بسبب حالة الجفاف الشديد، فيما أغلق المزارعون في جزيرة صقلية (جنوب إيطاليا) الطرق احتجاجاً على فشل الحكومة في تعويضهم عن موجة الحر والجفاف الشديدة التي طال أمدها في الصيف الماضي، وقضت على نصف المحاصيل.
من جهتها، اعترفت رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، بخطورة ما يجري، وقالت إن «هناك انقساماً واستقطاباً متزايدَين» عبر القارة. وفي محاولة لتدارك الأمور، أَطلقت بروكسل ما سمّته «حواراً استراتيجيّاً» بين المجموعات الزراعية وصانعي القرار في الاتحاد الأوروبي، لكنّ المزارعين الصغار في جميع أنحاء أوروبا، الذين طفح بهم الكيل ويشعرون بخيانة النخب الحاكمة لهم ويخسرون تدريجياً القدرة على إطعام أسرهم، لن تنطلي عليهم في ما يبدو تلك الألاعيب اللغوية. ويقول ممثلوهم إن معركتهم هذه المرّة تمثّل «صراعاً من أجل البقاء»، وإن حراكهم لن يتوقف قبل رفع الظلم عنهم. ويعتقد مراقبون بأن القلق في كواليس بيروقراطيّة بروكسل يتجاوز فضاء الصراع مع المزارعين، إذ إن قطاعات اقتصادية عديدة عبر القارة تعرّضت لأضرار فادحة بسبب سياسات المفوضية، ولا سيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، فيما يُخشى الآن من توسُّع دائرة الغضب لتشمل عمّال المصانع، والمعلّمين والعاملين في الصحة وقطاعات البناء والنقل.