دخلت الانتخابات البلدية في تركيا شهر الحسم، إذ ستتقرَّر في اليوم الأخير من آذار الجاري ملامح المعادلات السياسية للمرحلة المقبلة. لكن المعارضة التي قضمت المدن الكبرى، في انتخابات عام 2019، ملحِقةً هزيمة مدوّية بـ"حزب العدالة والتنمية"، لم تنجح في التأسيس لانتصارات استكمالية في الانتخابات النيابية، أو الانتخابات الرئاسية. ويبدو أن ما يجري هو العكس، أي أن السلطة تؤسّس على انتصارها في البرلمان والرئاسة لاستعادة البلديات الكبرى التي كانت قد خسرتها قبل خمسة أعوام، والمُضيّ بزخم أكبر في السنوات الخمس المقبلة. على أن جميع أحزاب السلطة والمعارضة تذهب إلى الانتخابات على قاعدة "تفرق أيدي سبأ"، بعدما تقدَّم الجميع بلوائح رسمية مستقلّة من دون أيّ تحالفات بارزة، باستثناء ذلك الذي يجمع بين حزبَي السلطة، "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، في بعض المناطق، ومنها أنقرة وإسطنبول.واقعاً، تتقدَّم انتخابات مدينة إسطنبول الواجهة؛ إذ تنعقد عليها رهانات جميع الأحزاب. ففي الانتخابات الرئاسية، وهي معيار أساسي، لم يتفوّق رجب طيب إردوغان على منافسه، كمال كيليتشدار أوغلو، لا في إسطنبول ولا حتى في أنقرة أو إزمير بطبيعة الحال. لكن انتخابات 2019 البلدية، و2023 الرئاسية، شهدت أوسع اصطفاف بين الموالاة والمعارضة، حتى صارت الأحزاب التي لا تتعدّى قوّتها الـ 5% أو الـ 7% مؤثرة جداً في حسم النتائج لمصلحة هذا المرشّح أو ذاك. وعليه، فإن استطلاعات الرأي الحالية تعطي لكلّ من مرشّح "العدالة والتنمية" ومعه "الحركة القومية"، مراد قوروم، ومرشّح "حزب الشعب الجمهوري" المعارض، أكرم إمام أوغلو، نسبة متقاربة جداً تقارب الـ 41%. ووفقاً لشركة "أوبتيمار" التي أعطت هذه النسب، وعُرفت بإعطاء نتائج تقديرية دقيقة إلى حدّ كبير، فإن باقي المرشّحين ستكون حصصهم وفق الآتي: مرشّح "حزب الرفاه من جديد"، محمد ألتين أوز (حوالي 9.8%)؛ ومرشّح "حزب ظفر"، عزمي قره محمود أوغلو (حوالي 7.7%)؛ ومرشّحة "حزب الشعوب للمساواة والديموقراطية" الكردي، مرال دانيش بشتاش (7.4%)؛ ومرشّح "الحزب الجيّد"، بوغرا قاونجو (5.3%)؛ ومرشّح "حزب السعادة الإسلامي"، بيرول آيدين (3.7%)؛ ومرشّح "حزب مملكت"، بيرك حاجي غوزيللر (3%)، فيما سيحصل مرشّحو ما تبقّى من أحزاب أخرى صغيرة على ما بين 1% و1.5%.
دخلت جميع الأحزاب بمرشّحين منفردين في كل المناطق، ومنها إسطنبول


وتُظهر هذه العيّنة من الاستطلاع أن كل حزب رمى بمرشّحه منفرداً في الانتخابات، فيما المرشّحان الرئيسيّان متعادلا الكفة. وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، ستكون المعركة قاسية بين إمام أوغلو وقوروم، حيث يفوز المرشّح الذي سينال أكبر عدد من الأصوات مهما كانت نسبتها. لذلك، تتّجه الأنظار إلى مرشّحي الأحزاب الأخرى، ولا سيما تلك التي ستنال تقديريّاً ما يزيد على الـ 4%، فيما الرهان أن ينسحب في اللحظة الأخيرة أحد الأحزاب أو أكثر لمصلحة قوروم أو إمام أوغلو. ولعلّ الأنظار ستتّجه أولاً، إلى مرشّح "الرفاه من جديد" الذي تعطيه الاستطلاعات نسبة عالية تبدأ من 6% و7% وتصل إلى 10%. والحزب الذي يرأسه فاتح إربكان، ابن زعيم الحركة الإسلامية الراحل نجم الدين إربكان، كان يَعتبر أن الرئيس الحالي "خان" مبادئ الحركة الإسلامية، وتنكّر لها، ودخل في شراكة مع الولايات المتحدة، علماً أن "حزب السعادة" يُعدّ الوريث الفكري لإربكان. لكن فاتح، ابن إربكان، أسّس حزباً خاصاً به عام 2018، هو "الرفاه من جديد" تمثُّلاً باسم "الرفاه" الذي كان والده يترأسه في الثمانينيات والتسعينيات، ووصل في عهده إلى رئاسة الحكومة وبلديتَي إسطنبول وأنقرة. لكن إردوغان نجح عشية الانتخابات النيابية والرئاسية السابقة في استمالة فاتح إربكان والتحالف معه، فأعطاه 5 نواب ضمن "تحالف الجمهور" مقابل تأييده في الرئاسة، وكان لتصويت "الرفاه من جديد" لرئيس الجمهورية دور مهمّ في ترجيح انتخاب إردوغان، إذ بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب في الانتخابات النيابية، 2.8%، أي مليونَي ونصف مليون صوت، ولو انحازت هذه الكتلة - مثلاً - إلى كيليتشدار أوغلو، وليس إلى إردوغان، لكان الأخير خسر الرئاسة.
وبعدما أمّن إردوغان انتخابه رئيساً، لم يَعُد بحاجة إلى كسب ودّ فاتح إربكان، فاختلفا على عدد المقاعد البلدية التي يجب أن تكون من حصة "الرفاه من جديد". كما أن إربكان انتقد سياسة الحكومة الاقتصادية وموقفها من غزة، وأيضاً من انضمام السويد إلى "حلف شمال الأطلسي"، فافترقت السبل بينهما. ومع أن أصوات "الرفاه من جديد" في إسطنبول وحدها، قاربت الـ 3% في الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا أنّ استطلاعات الرأي المختلفة عكست تزايداً مطّرداً في شعبيته التي تتعدّى الـ 5%، وتصل أحياناً إلى الـ 10%. وعلى ما يبدو، فإن نعي إردوغان للتحالف مع إربكان نهائي، ما يعني أن مرشّح "العدالة والتنمية" سيخسر أصوات "الرفاه من جديد" الذي كان يمكن أن يحمل قوروم على عاتقه ويقرّبه من تحقيق الانتصار.
أمّا الوضع على جبهة المعارضة فأكثر سوداوية، حيث دخلت جميع الأحزاب بمرشّحين منفردين في كل المناطق، ومنها إسطنبول. لكن ما يريح إمام أوغلو، كما حزبه، "الشعب الجمهوري"، نسبياً، هو أن قوة الأحزاب المعارضة الأخرى ليست كبيرة في إسطنبول، حيث بإمكان إمام أوغلو منفرداً أن يجمع أكثر من 40%، لكنها قد لا تكون كافية للفوز، وخصوصاً أنه يواجه عمليّاً رئيس الجمهورية بكل إمكانات الدولة، وليس مراد قوروم. ومن هنا، تتّجه الأنظار إلى موقف "حزب الشعوب للديموقراطية والمساواة"، والذي تُقدَّر قوّته التجييرية في إسطنبول بما لا يقلّ عن 6% و7%. ومع بداية الحملة الانتخابية وعشية تحديد المرشّحين والتحالفات، تكثّفت الاجتماعات بين الحزب الكردي و"الشعب الجمهوري" من أجل البحث في تفاهمات أو توافقات في بعض المناطق، ومنها إسطنبول، باعتبار أن مرشّح الحزب الكردي لا أمل له مطلقاً، وترشّحه ليس سوى لإثبات الوجود، والأولوية هي لهزيمة إردوغان في إسطنبول وإبقائها بيد المعارضة. ومع ذلك، ومن دون تفسير مقنع أو واضح، لم يتّفق الحزبان على انسحاب المرشّح الكردي. غير أن أوساط "العدالة والتنمية"، ترى أن هناك "لعبة قذرة" بين الحزبَين لانسحاب المرشّح الكردي في اللحظة الأخيرة، أو منح جمهور الحزب الكردي في إسطنبول ضمناً أصواته لإمام أوغلو. وفي حال حصول هذا، مع بقاء خريطة المواقف الأخرى على حالها، فإن فوز إمام أوغلو سيكون مؤكداً بما لا يقلّ عن 47% من الأصوات. وما لم يحصل، فإن الصراع بين إمام أوغلو وقوروم سيكون شديداً والنتائج ستكون متقاربة وقد ينجح أحدهما بفارق نقطة أو حتى أقلّ.