طهران | على الرغم من أن الانتخابات التشريعية الإيرانية، جرت في الأول من آذار الجاري، في أجواء اتّسمت بالركود، غير أن الإعلان عن نتائجها أثار نقاشات صاخبة في المجالَين السياسي والإعلامي الإيرانيَّين، بدءاً من نسب المشاركة، وصولاً إلى التغيير في إطار المعسكر الأصولي الحاكم. وكان قد دُعي أكثر من 61 مليون ناخب للإدلاء بأصواتهم، اقترع منهم 25 مليوناً، أي ما نسبته 41% فقط، وهو ما أثار أصداء متباينة في الأوساط السياسية الإيرانية، إذ اعتبر المقرّبون من السلطات هذه النسبة «نصراً ونجاحاً» في مقابل الدعوات الواسعة التي وُجّهت لمقاطعة الانتخابات. من جهتهم، قال منتقدو النظام الحاكم إن نسبة المشاركة هي الأدنى خلال الدورات الـ 12 الأخيرة، واعتبروها مؤشراً إلى التململ الواسع الذي يسود المجتمع الإيراني من الحكومة، وتحدّثوا عن ضرورة البحث في أسبابه ومدلولاته. كذلك، كانت نسب المشاركة في المدن الكبرى، أقلّ من المعدّل السائد؛ فعلى سبيل المثال، بلغت النسبة في مدينة طهران 24%، بينما أشارت التقارير والأرقام إلى ارتفاع كبير في عدد «الأصوات الباطلة»، والتي تُصنّف في خانة «الصوت الاحتجاجي»، إذ شكّلت هذه الأصوات في طهران وحدها، قرابة خُمس مجمل الأصوات، علماً أن نسبتها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بلغت في إيران كلها 13% من معدّل التصويت.وبناءً على ذلك، فإن بعض المدن المهمّة، بما فيها طهران، ستذهب إلى الجولة الثانية المقرَّر إجراؤها بعد نحو شهرين من الآن. وبحسب قانون الانتخابات في إيران، فإن المرشّح المنتخب يجب أن ينال في الجولة الأولى ما لا يقلّ عن 20% من مجمل الأصوات الصحيحة (غير الباطلة). وكانت لجنة الانتخابات في وزارة الداخلية الإيرانية قد أعلنت، أمس، انتهاء عملية فرز الأصوات في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، حيث تم تحديد أسماء 245 نائباً، فيما ستجري الجولة الثانية من أجل حسم 45 مقعداً. ووفق نتائج فرز الأصوات في طهران، دخل 14 نائباً، بعد حصولهم على الأصوات الضرورية، إلى مجلس الشوری، فيما سيتوجّه 32 مرشّحاً إلى الجولة الثانية لانتخاب النواب الـ 16 المتبقين، علماً أن الحالة تلك غير مسبوقة. وفي ضوء المشاركة المتدنّية والأصوات الباطلة، نال المرشّحون الفائزون، وخاصة في المدن الكبرى، نسباً مئوية ضئيلة؛ إذ، على سبيل المثال، حصل الأول في مدينة طهران على ما نسبته 7.6% من مجموع الأصوات، وفي مدينة شيراز 5%، وفي أصفهان 11%، وفي رشت 5%. ويمكن ما تقدَّم، أن يضع تحديات أمام البرلمان المقبل، ويجعل قراراته أقلّ قبولاً من قِبَل المجتمع. لذلك، فإن العديد من المراقبين في إيران يحذّرون من أنه في حال عدم معالجة التذمّر في المجتمع، فإن ابتعاد الشعب عن المشاركة السياسية يمكن أن يترك تبعات جادّة.
تفوّق جناح الأصوليين الراديكاليين داخل المعسكر الأصولي


لكن الوجه الآخر للانتخابات التشريعية الإيرانية تمثَّل في النتائج التي أفرزتها. فخلال هذه الجولة، سُجل تنافسان سياسيان بصورة متزامنة: الأول بين الأصوليين والمعتدلين القريبين من الرئيس السابق حسن روحاني، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني من جهة، والثاني بين مختلف أطياف وأجنحة المعسكر الأصولي من جهة أخرى. وسعى المعتدلون جاهدين، في غياب الإصلاحيين، ليتحوّلوا إلى القطب المقابل للأصوليين، إلا أنهم لم يتمكّنوا من الحصول على نسب مرتفعة من الأصوات بسبب تدنّي المشاركة الشعبية. وهؤلاء الذين خاضوا الانتخابات في أرجاء إيران بـ 160 مرشحاً، كانوا يأملون بأن يرسلوا نصف ذلك العدد إلى البرلمان، لكنهم نجحوا في خاتمة المطاف في الحصول على 40 نائباً فقط، علماً أن التيار المذكور قد يتمكّن من إرسال عدد آخر من مرشحيه إلى البرلمان في بعض الدوائر الانتخابية في الجولة الثانية. لكن في مدينة طهران، فإن الشخص الذي تصدّر - مثلاً - قائمة هذا التيار، أي علي مطهري، ليس حتى ضمن الـ 60 الأوائل ممَّن فازوا بأغلبية الأصوات. والشخصية الأخرى، أي محمد باقر نوبخت، الناطق السابق باسم حكومة حسن روحاني ومساعده، لم يتمكّن من الفوز في مدينة رشت. لذا، يبدو أن 40 إلى 50 ممثلاً للتيار المعتدل، من أصل 290 نائباً، سيشكّلون تكتّل الأقلية والمعارضة في البرلمان الإيراني العتيد.
غير أن تنافساً كان قائماً داخل المعسكر الأصولي الذي قدَّم بشكل متزامن عدّة قوائم انتخابية، ولا سيما في طهران التي تدور فيها المعركة الكبرى عادةً. وجرى هذا التنافس بين جناحَين: الأصوليين القُدامى والأصوليين التكنوقراط القريبين من رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمد باقر قاليباف من جهة؛ والأصوليين الراديكاليين القريبين من الرئيس الإيراني الحالي إبراهيم رئيسي من جهة أخرى. وتشير النتائج المعلنة إلى تفوّق الجناح الأخير، إذ إن محمد باقر قاليباف الذي فاز في الانتخابات التشريعية السابقة بالمركز الأول في طهران، حلّ هذه المرّة في المركز الرابع بعد ثلاثة وجوه راديكالية أصولية تُعدّ بالمناسبة من المنتقدين الألدّاء لقاليباف (محمود نبويان، حميد رسائي وأمير حسين ثابتي). كذلك، فإن المرشّحين الـ 30 الذين فازوا بأكبر عدد من الأصوات في طهران، كانوا من الجناح الراديكالي الأصولي.
وربّما يُعدّ هذا التفوق خبراً ساراً بالنسبة إلى إدارة إبراهيم رئيسي، بحيث تتراجع الأصوات الناقدة لحكومته في البرلمان. ووصفت الأوساط القريبة من الجناح الراديكالي، نتائج الانتخابات بأنها «انسلاخ» داخل المعسكر الأصولي و»انتفاضة ضدّ العرابين» (في إشارة إلى الوجوه القديمة والمتنفذة للمعسكر الأصولي بمن فيهم غلام علي حداد عادل). وبناءً على ذلك، يبدو أن الانقسامات داخل المعسكر الأصولي ستؤدي إلى عدم تمكّنه من تشكيل تكتّل الأغلبية الموحّدة، إذ سيتوزع على تكتلَين أو ثلاثة، وهو ما قد ينجم عنه تغيير في خريطة القوى داخل البرلمان المقبل، ولا سيما تركيبة هيئته الرئاسية. ولذا، يستبعد كثيرون أن يعتلي قاليباف كرسيّ الرئاسة مرّة أخرى.