اكتسبت الانتخابات التشريعية الإيرانية لهذه الدورة (الـ12 لمجلس الشورى الإسلامي، والسادسة لمجلس خبراء القيادة)، والتي أُجريت في الأول من الشهر الجاري، أهمية أكبر من سابقاتها، ترتبط خصوصاً بنسب المشاركة الشعبية، أكثر من ارتباطها بالنتائج النهائية. وإذ يمكن إرجاع هذه الأهمية إلى أحداث الأعوام الأخيرة، فإن لذلك خلفية تاريخية أيضاً؛ فمع تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، وزوال العهد الملكي، تحوّل صندوق الاقتراع إلى رمز للمشاركة السياسية في المجتمع، ومصدر شرعية لنظام الحكم، علماً أن تلك المشاركة مرّت بمنعرجات، وإن ظلّت معدّلاتها قرب الـ60% في الانتخابات التشريعية، والـ 70% في الانتخابات الرئاسية. وفي ضوء ذلك، رأى المعارضون أن الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات، تشكّل أداة للنيل من مشروعية نظام الحكم، وهم أفلحوا، في السنوات الأخيرة، في تحقيق بعض النجاحات. وقد جرت الانتخابات التشريعية السابقة في شباط 2020 بمشاركة 42% من الناخبين، فيما وصلت نسب المشاركة في الانتخابات الرئاسية، في حزيران 2021، إلى 48%، وهو ما يمثل أدنى نسب في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وفي أعقاب الاحتجاجات والاضطرابات التي اندلعت في خريف 2022، احتجاجاً على وفاة الشابة مهسا أميني، نظّم المعارضون حملات دعائية واسعة لمقاطعة الانتخابات الأخيرة، الأمر الذي حمل البعض على توقُّع أن تتراجع نسبة المشاركة، في دورة 2024، إلى أقلّ من 30%، وحتى 20%. أيضاً، انخرطت الدول الأجنبية المعادية لإيران، ومعها المجموعات الإرهابية الانفصالية بما فيها «كوموله»، في حملة المقاطعة، لتقول، في حال نجاح حملتها، إن عدم مشاركة الشعب الإيراني جاء استجابة لها وتماهياً معها. فعلى سبيل المثال، نشر الحساب الرسمي لإسرائيل باللغة الفارسية، تصميماً على منصّة «إكس» يفسّر المشاركة في الانتخابات على أنها دعمٌ لمجموعات المقاومة الفلسطينية، ومعارضةٌ لإسرائيل.
ولكن نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات الأخيرة، بلغت 41%، وهو ما يقودنا إلى نتائج متباينة:
1- تُعدّ النسبة المشار إليها، الأدنى على الإطلاق، وهي الثالثة المتتالية التي لم تبلغ عتبة الـ50%، وهي تشير إلى أن قطاعاً واسعاً من المجتمع اتّخذ قراراً حاسماً بعدم المشاركة. ولذا، فإن استمرار الوضع على حاله، يهدّد الديموقراطية والسيادة الشعبية للنظام السياسي الإيراني، فيما تغيير هذه الظروف يحتاج إلى إصلاحات سياسية.
أبدت الطبقة الوسطى الحضرية في إيران، في العقود الماضية، معارضة كبيرة للأصوليين الراديكاليين


2- في المقابل، أسهمت هذه المشاركة في هزم حملة العقوبات؛ إذ إن مشاركة 41% من الشعب الإيراني، أَظهرت أن القاعدة الوفية للنظام، لا تزعل حتى في أحلك الظروف، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله المعارضة، هو أن تجعل ثلث إجمالي الناخبين المشاركين الفاعلين، يتماشون معها. وقد أكد المقاطعون، مراراً، في الأشهر الأخيرة، أن المشاركة لا معنى لها سوى الوفاء للجمهورية الإسلامية. وفي ضوء الافتراض المسبق، فإن النسبة التي سُجلت في انتخابات 2024، والتي افتقدت الأجواء التنافسية، تعني شيئاً واحداً، وهو أن النظام يملك، في أسوأ الأحوال، كتلة وفية ومناصرة تصل إلى أكثر من 40%. ولذا، خابت آمال المعارضين الذين كانوا يأملون في أن تصل المشاركة إلى نحو 20%، وتقوّضت تتابعاً مصداقية السيناريو القائل بإطاحة الجمهورية الإسلامية.
3- بعيداً من عالم الأرقام، فإن نموذج المشاركة شهد في انتخابات الجمعة الماضية، تغيّراً مهمّاً. إذ بدا، من التقارير غير الرسمية والمشاهدات الميدانية، جليّاً، الكم الكبير من الأصوات الباطلة وأوراق الاقتراع التي لم يُسجّل عليها الناخبون أيّ أسماء. وفيما يذهب 2% من الأصوات في أيّ انتخابات، عادةً، إلى الأصوات الباطلة، إلا أن حصّة هذه الأصوات في الانتخابات الأخيرة، شهدت زيادة ملحوظة، علماً أنه قبل عامين، خلال الرئاسيات، بلغت نسبة الأصوات الباطلة 13%، وهو ما مثل أيضاً قفزة غير مسبوقة. والواقع أن الأصوات الباطلة تمثّل، في المناخ السياسي الإيراني، علامة احتجاجية؛ وبعدما كانت حملة مقاطعة الانتخابات تجعل الاحتجاج مساوياً لعدم الحضور إلى صناديق الاقتراع، فإن قطاعاً واسعاً من المجتمع آثر تطبيق فكرة «الصوت الاحتجاجي»، وفي الوقت ذاته عدم مجاراة المعارضة المقيمة في خارج البلاد. وبلغة مبسّطة، فإن هؤلاء الذين يعارضون تغيير النظام، يريدون بالتوازي، التعبير عن تذمّرهم من الأوضاع السياسية للبلاد. ونظراً إلى أن الجمهورية الإسلامية لا تواجه معارضة مستقلّة، بل إن جلّ المنادين بالمقاطعة يتبعون الدول الأجنبية، فإن قطاعاً من المجتمع اختار هذه المقاربة الوسطية. ولعلّ القاعدة المتنامية للأصوات الباطلة، يمكن أن تُعتبر بمنزلة الصندوق الأسود للتطورات المستقبلية للسياسة الإيرانية.
4- تشير نتائج الانتخابات إلى أن الكثير من الوجوه الشهيرة، إمّا فشلت في الدخول إلى البرلمان، أو أنها حصلت على نسب متدنية من الأصوات، مقارنة بالدورات السابقة. فعلى سبيل المثال، دخل الرئيس الحالي للبرلمان، محمد باقر قاليباف، الذي يمثّل أهالي طهران، إلى البرلمان بـ447 ألف صوت (ثلث أصوات الدورة السابقة تقريباً)، وحلّ في المركز الرابع. ويمكن مشاهدة نماذج مماثلة في المدن الأخرى، إذ يبدو أن الناخبين أرادوا القول إنهم يبحثون بهذه الطريقة عن إدخال تغييرات، علماً أن التركيبة التي تشكل البرلمان الحالي، أصولية وأكثر راديكالية من التركيبة السابقة. ومن جهتها، أبدت الطبقة الوسطى الحضرية في إيران، في العقود الماضية، معارضة كبيرة للأصوليين الراديكاليين. ولهذا السبب، ليس مستبعداً، مع هزم حملة مقاطعة الانتخابات، أن تتحرّك الطبقة الوسطى، في المستقبل، في اتّجاه زيادة حصّتها ودورها في المشاركة الانتخابية.
* صحافي ومحلّل سياسي إيراني