لندن | فيما تتوسّع مخاوف النخب الأوروبية من تحوّل في السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا، في حال نجح دونالد ترامب في العودة إلى البيت الأبيض، وفي وقت تتّجه فيه كييف إلى فرض قانون جديد يفتقد إلى الشعبية بغرض تجنيد فئات جديدة من المواطنين لتدعيم الخطوط الدفاعية المنهكة على طول الجبهة مع روسيا، فإن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بدا أكثر إصراراً على توجّهه القاضي بعدم وضع قيود تحدّد صيغ الرّد الغربي الممكن على موسكو، بما في ذلك إرسال قوات غربية للقتال في أوكرانيا، وهو ما أثار خلافات مع بقية الحلفاء، ولا سيما برلين.واستقصد ماكرون الظهور في مقابلة تلفزيونية، الخميس الماضي، للترويج محلّياً لتوجّهه الجديد باعتبار العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بمثابة «تهديد وجودي» للأوروبيين، ما قلّص الآمال التي علّقها البعض - ولا سيما في بروكسل - على جَسر الخلاف الفرنسي - الألماني في هذا الشأن خلال القمّة الثلاثية التي عُقدت في برلين، يوم أمس، وجمعت إلى الزعيم الفرنسي كلاً من المستشار الألماني أولاف شولتس، ورئيس الوزراء البولندي الجديد دونالد تاسك. وقال ماكرون في المقابلة التي استمرّت لنصف ساعة وبُثّت في وقت الذروة على قناتَين تلفزيونيتَين رئيسيتَين: «إذا انتصرت روسيا (في أوكرانيا)، فإن حياة الشعب الفرنسي ستتغيّر، ولن تكون أوروبا آمنة بعد اليوم».
وكان ماكرون أثار عاصفة في الأجواء الغربية بعدما أدلى بتصريحات، الشهر الماضي، طالب فيها باعتماد سياسة «الغموض الاستراتيجي» مع موسكو، رافضاً استبعاد مبدأ إرسال قوات برية غربية لتدعيم قوات نظام كييف التي توشك على الانهيار. وقد أثارت تلك التصريحات ضجّة في الداخل الفرنسي، وصخباً في الخارج، واضطرّ عدد من العواصم، بما فيها واشنطن ولندن، إلى النأي بنفسها عن هذا الموقف، والتأكيد أنها لن ترسل قوات لمواجهة الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية، كما تسبّبت بمزيد من التباعد بين باريس وبرلين حيث يتبنّى شولتس لهجة أكثر تحفّظاً تجاه التورّط في الحرب مع روسيا. وندّد ماكرون بالسلوك «المتخاذل» لحلفائه من خلال الإشارة إلى أن وضع أيّ قيود على كيفية الردّ على «عدوان» موسكو المستمرّ، يعني «الإقرار بالهزيمة»، مصرّاً على موقفه حول «الغموض الاستراتيجي»، وإنْ قال إن بلاده لن «تقود الهجوم أو تأخذ المبادرة» في هذا الخصوص. أيضاً، لجأ الرئيس الفرنسي، في وقت سابق من الأسبوع، إلى معارضيه في أقصى اليمين الفرنسي للتمكّن من تمرير تشريع في البرلمان يفوّض الحكومة بعقد اتفاق أمني مع أوكرانيا يتضمّن تأييد طلبها الالتحاق بحلف «الناتو»، وتعهدات بتقديم دعم مالي وعسكري لها. لكنّ استطلاعات الرأي تقول إن أكثر من ثلثي الفرنسيين لا يدعمون موقف رئيسهم، ويعتبرون أن تبنّي عداوة موسكو، القوّة النووية، توجّه خاطئ جملةً وتفصيلاً.
ويلقي تباعد المواقف الفرنسية والألمانية بظلال ثقيلة على قدرة بروكسل على الاستمرار في حشد الأمم الأوروبية وراء واشنطن في منازلتها غير المباشرة مع موسكو. وبخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، أصبح التجمّع لا يستقيم من دون توافق برلين وباريس تحديداً، على الخطوط العريضة. ويعلّق بيروقراطيو الاتحاد آمالاً كبيرة على دور محتمل لرئيس وزراء بولندا في رأب الصدع بين العاصمتَين حول الشأن الأوكراني، وذلك في إطار قمّة تحالف «فايمار» الثلاثي الذي يجمع ألمانيا وفرنسا وبولندا. ومن المعروف أن تاسك، الذي نجح في إقصاء اليمين المتطرّف عن السلطة في وارسو، وأعاد موضعة بلاده كشريك فاعل لبروكسل، يتمتّع بخبرة ممتازة في عقد الصفقات في كواليس الاتحاد، وكان دوره محوريّاً في صيانة وحدة منطقة اليورو عندما أفلست اليونان وكادت أن تخرج من العملة الأوروبية الموحّدة.
لكنّ مراقبين للعلاقات الفرنسية - الألمانية يقولون إن قمّة اليوم لن تكون كافية لجَسر الهوة التي توسّعت بين ماكرون وشولتس على الصعيدَين السياسي والشخصي، والتوتّر الملحوظ للعلاقة بينهما في الأسابيع الأخيرة. وكان المستشار الألماني رفض بشكل مقتضب لكن حاسم، دعوة ماكرون إلى الاحتفاظ بخيار إرسال قوات برية أوروبية إلى أوكرانيا، وعلّق الرئيس الفرنسي بعدها بأن على الأوروبيين ألّا يكونوا جبناء في هذه اللحظة التاريخية، ما اعتبرته برلين موجّهاً إليها، وهذراً «غير مفيد».
على أن جذور الخلاف الفرنسي - الألماني تذهب أبعد من هذه المشاحنات، وترتبط أساساً بالرؤية الاستراتيجية للبلدين في ما يتعلّق بالأمن الأوروبي، واختلاف المقاربات بينهما حول عدد من القضايا الشائكة الأخرى بما في ذلك تحسّس ألماني من محاولة فرنسا مدّ نفوذها إلى شرق أوروبا ودول البلطيق التي تُعدّ تقليدياً ضمن مساحات نفوذ برلين الإقليمي. وتعتمد ألمانيا التي تستضيف قواعد عسكرية أميركية في طول البلاد وعرضها، على واشنطن لضمان أمن واستقرار القارة، فيما تدفع باريس منذ بعض الوقت تجاه فكرة بناء جيش أوروبي يجنّب دول الاتحاد الوقوع رهينة لتغيّر مزاج الإدارات في واشنطن مع كل انتخابات رئاسية جديدة. وبالإضافة إلى ما تقدّم، فإن خلافات باريس وبرلين تشمل مسائل حول أوجه الإنفاق الأوروبي على الدفاع وتمويل الديون المرتبطة بذلك، وامتناع ألمانيا عن إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا مقابل الجعجعة الفرنسية حول ضرورة دعم المجهود الحربي الأوكراني من دون تقديم مساهمة فعلية تُذكر - أقلّه مقارنة مع ما تتحمّله كل من برلين ووارسو -. كما ويتبنّى الزعيمان سياسات انتخابية متعارضة في الانتخابات الأوروبية المقبلة (حزيران)، إذ يروّج شولتس لنفسه كمستشار للسلام والاستقرار، فيما اختار ماكرون لعب دور الصقر ضدّ روسيا لتقليص هامش الانتصار المتوقّع لليمين الفرنسي المتطرّف، على رغم أنه كان حتى وقت قريب الوسيط الوحيد المخوّل من واشنطن لمخاطبة موسكو.
ونقلت صحف لندن عن دبلوماسيين بريطانيين تصوّرهم بأن وارسو مع تاسك قد تكون أقرب الآن إلى الموقف الفرنسي منها إلى الألماني، وأن بولندا تخشى بالفعل انعكاسات وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وأصبحت أكثر إقناعاً بضرورة الاحتفاظ بخطّ ثان للأمن سوى «الناتو». وتدعم بولندا وفرنسا مبدأ تزويد كييف بصواريخ طويلة المدى، إذ هناك تبادل أدوار بين رئيس الوزراء البولندي ووزير خارجيته في شأن الموقف من إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا، حيث لكلّ مقام مقال.
السيناريو الأكثر واقعية الآن هو أن القمّة قد تساعد في توافق برلين وباريس على تجنّب المشاحنات العلنية بينهما خلال الأسابيع القليلة المقبلة للسماح للزعيمَين بتجاوز استحقاق انتخابات البرلمان الأوروبي، لكنهما ستكونان، اعتباراً من هذا الصيف، بحاجة ماسّة إلى البحث عن صيغة تفاهم لتوحيد المواقف الرسمية الأوروبية في ظلّ الهيمنة المحتملة لليمين المتطرّف على برلمان بروكسل الجديد، وتراجع فرص التجديد للرئيس الأميركي، جو بايدن، في منصبه لمصلحة سطوع نجم دونالد ترامب مجدّداً - ما قد يترك الأوروبيين وحيدين في اللعبة الخطيرة مع روسيا -، فضلاً عن الأوضاع السيئة على الأرض على الجبهة الأوكرانية، والتي أَجبرت كييف على تجنيد المزيد من الشبان للدفع بهم إلى المحرقة مجاناً.