تونس | عادت رئيسة الحكومة الإيطالية، جيورجيا ميلوني، على وجه السرعة إلى تونس، في زيارة هي الثانية لها خلال ثلاثة أيام فقط؛ إذ لا يمكنها أن تضيّع على بلدها فرصة عقد اتّفاق مع الرئيس التونسي، قيس سعيد، خاص بالهجرة، طالما أن شروطه مؤاتية للتكتُّل الأوروبي كما لتونس. وهذه المرّة، لم تأتِ ميلوني وحيدة، بل أحضرت معها إلى طاولة سعيد أكبر مناهضيه في أوروبا، أي رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، التي دأبت على التنديد بسياسات الرئيس التونسي باعتبارها «انقلاباً على الديموقراطية». وتثير عودة ميلوني العاجلة رفقة كلّ من فون دير لايين، ورئيس الوزراء الهولندي، أسئلة عدّة، في مقدّمها السبب الذي يدفع أعلى مسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى تغيير جدول أعمالهم، من دون ترتيبات دبلوماسية مسبقة، أو دعوة من سعيد. وبدا وكأن ميلوني نجحت في ممارسة ضغط هائل على المفوضية الأوروبية ومقايضتها بوحدة القرار الأوروبي إذا لم تتخلّ الأخيرة عمّا تعتبره رئيسة الوزراء الإيطالية ترفاً حقوقيّاً، أي معاداة سعيد وقطع أيّ تنسيق معه كعقاب على «سياساته الاستبدادية»، فضلاً عن رفضها تقاسم دول الاتحاد جميعها عبء استقبال المهاجرين غير النظاميين، في أوج أزمة اقتصادية ومالية خانقة.وترغب ميلوني في إبقاء تدفّقات الهجرة داخل الحدود التونسية، وألّا يتكرّر «التخاذل» التونسي في منع المهاجرين من اجتياز البحر، والذي نتج منه وصول 53 ألف مهاجر منذ بداية العام الجاري، بحسب وسائل إعلام إيطالية. وفي المقابل، يبحث سعيد عن حلول وفق شروطه الخاصة، مستخدماً ورقة الهجرة للمناورة مع الاتحاد الأوروبي. فتصريحات الرئيس التونسي المحرّضة على المهاجرين في شهر شباط الماضي، وما تبعها من ممارسات عنصرية ضدّ أفارقة جنوب الصحراء الذين تضاعف عددهم في تونس بالآلاف خلال السنوات الأخيرة، فعلت فعلها في دفع الأوروبيين إلى إعادة حساباتهم. وأكدت «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين» أن أغلب طلبات اللجوء التي وردت إليها بعد ذلك التاريخ، طلب أصحابها تمكينهم من اللجوء في الدول الأوروبية ورفضوا توطينهم في تونس، فيما تسارعت وتيرة قوارب الهجرة نحو السواحل الإيطالية. وسبق أن هدّد سعيد بشكل مبطّن، الضفة الشمالية للمتوسط، بأن سقوط بلاده في مربّع العنف والفوضى نتيجة الأزمة الاقتصادية أو تدخّل أطراف خارجية لتنحيته وإعادة المنظومة الحاكمة السابقة، لن يؤدّي إلّا إلى مشاكل أكبر في تلك الضفة. ولوّح سعيد، بساعات قبل لقائه ضيوفه القادمين على عجل من مدينة صفاقس التي تضمّ الآلاف من مهاجري جنوب الصحراء، بأن تونس لن تلعب دور شرطي الحدود لدى أوروبا، ولن تقبل بغير اتفاقات تَنتج من مؤتمر دولي لمكافحة الهجرة يجلس فيه الجميع بندّية للنقاش وإيجاد الحلول.
ترغب ميلوني في إبقاء تدفّقات الهجرة داخل الحدود التونسية


ولأن ورقة الهجرة التي تلعبها أيضاً المملكة المغربية مع إسبانيا، غالباً ما تكون رابحة، فقد أفلحت في استمالة ميلوني التي كانت وعدت الإيطاليين خلال الحملة الانتخابية بحلّ هذه المعضلة، وهو ما تنفّذه خلال هذه الفترة استباقاً لموسم الصيف الذي تتضاعف فيه حركات الهجرة غير النظامية. ولقيت كلمة سعيد صداها لدى ضيوفه، إذ أعربت ميلوني عن حماستها لعقد المؤتمر، مؤكدة أنه سيَجري التحضير له في أقرب الآجال. وحتى ذلك الوقت، ستقدّم المفوضية الأوروبية «دفعة على الحساب» لحكومة نجلاء بودن تُقدّر بـ150 مليون يورو، فيما سيتمّ تدارس دعم عاجل بقيمة 900 مليون يورو لتكون هذه الخطوة «ضربة الحظ» التي ستنقذ بودن وسعيد من انهيار المالية العامة نتيجة شحّ السيولة. ومن جهتها، وضعت فون دير لايين كلّ احتجاجات المفوضية على الحالة الحقوقية والديموقراطية في تونس جانباً، وجلست تذكّر سعيد بتاريخ الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبلاده، واعدةً بتطويرها في المستقبل. أما هو، فاكتفى بتذكيرها بلاءاته الثلاث، وهي أن لا تتدخّل أطراف خارجية في شؤون بلاده، وأن لا مفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» بشروط مجحفة سيؤدّي تنفيذها إلى قيام ثورة أخرى، وأن لا يلعب دور شرطي المتوسط.
وبدت للصورة المنشورة على موقع الرئاسة التونسية، والتي ظهر فيها سعيد محاطاً بمستشاريه يدخن سيجارة بعد الغداء أمام ضيوفه، دلالات عديدة. فابتسامته التي كاد التونسيون ينسونها بعد أن تواتَر ظهوره متشنّجاً وحانقاً، تنبئ باعتقاده بانتصاره في النهاية على ضيوفه، وخاصة فون دير لايين التي توعّدت مراراً بقطع المساعدات المالية عن تونس، إذا لم يعدل سعيد عن تنفيذ مشروعه. وحصل الرئيس التونسي على وعد بدعم عاجل يعادل قيمة الدين العمومي الخارجي المُقدر بـ2800 مليون دينار تونسي، أي ما يعادل 900 مليون دولار، وهي ديون أرّقت سعيد وحان موعد سدادها، من دون أن تتمكّن بودن من إيجاد حلول لخلاصها، ولا سيما مع توقّف المفاوضات مع «صندوق النقد الدولي» وتواتر التخفيض في التصنيف الائتماني لتونس، وصولاً إلى ccc-، ما يعني ارتفاع مخاطر عدم القدرة على سداد الديون.