انتقلت أنظار المراقبين إلى الأزمة السودانية، قبل ساعات من عيد الأضحى وفي ظلّ فشل التوصّل إلى هدنة خلاله، من مدينة الجنينة (التي شهدت منذ 15 نيسان، مقتل 1100 من سكّانها، ونبّهت الأمم المتحدة في الـ24 من الجاري إلى وجود تطهير عرقي واستهداف لجماعة المساليت تحديداً فيها)، إلى مدينة نيالا، عاصمة جنوب دارفور، والتي شهدت صدامات كثيفة بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في الأيام الأخيرة، أسفرت عن وقوع نحو 20 قتيلاً مدنياً على الأقلّ، وسط تقديرات بارتفاع الرقم بالنظر إلى وقوع إصابات ووفيات لم تتمكّن من الوصول إلى مستشفيات المدينة. وبالتوازي مع ذلك، كثّف الجيش ضرباته الجوّية في الخرطوم، على مواقع يُشتبه في تحصّن قوات «الدعم» فيها، بينما أعلنت الأخيرة (25 حزيران) سيطرتها على القاعدة الشرطية المركزية في جنوبي الخرطوم، واستيلاءها على كامل العتاد العسكري الموجود فيها بما في ذلك 27 مدرّعة. ولم يعلّق الجيش على بيان «الدعم» إلّا في ظهر اليوم التالي، حيث أقرّ بفقدانه السيطرة على القاعدة، عادّاً ما جرى «تعدّياً سافراً على مؤسّسات الدولة المعنيّة بحماية المدنيين، ما يستوجب الإدانة والاستهجان». كما تجدّدت، قبل ساعات من عيد الأضحى، التقارير عن احتمال استئناف محادثات جدة، للتوصّل إلى وقف جديد لإطلاق النار خلال العيد. وشملت مقترحات الوساطة الجديدة ثلاثة جوانب، وهي: الوقف الدائم لإطلاق النار، وتيسير الوصول إلى الإغاثة الإنسانية، والتقدّم في العملية السياسية. ويبدو من خلال هذه البنود، أن القوات المسلحة السودانية تحديداً (باعتبارها الطرف المتحفّظ على مجمل هذه المحادثات) باتت أمام خيارَين لا ثالث لهما: القبول بمضمون تلك الوساطة بكلّ اختلالاتها بالنسبة إليها، مع ما يعنيه ذلك من تآكل مصداقيتها أمام جمهورها، وتكاثر التساؤلات حول جدوى الحرب من أساسها، وعودة الأمور إلى المربع صفر، وتعاظم الضغوط مجدّداً على الجيش. أمّا الخيار الثاني، فهو الاستمرار في الوضع الحالي القائم على مناورة الضغوط السعودية - الأميركية من جهة، ومواجهة «الدعم السريع» من جهة أخرى، والمغامرة بخوض حرب ممتدّة مع هذه القوات (حتى في حال عدم وجود قائدها «حميدتي»)، ومن ثمّ تهميش المسألة السياسية برمّتها، وفقدان الجيش في النهاية زخمه السياسي الراهن. ويتوقف خروج الجيش من المأزق الحالي على قدرته على تحقيق الحسم الذي يبتعد بدوره رويداً رويداً، إمّا بفضل تكثيف الدعم الخارجي لـ«الدعم» (كخيار استراتيجي للدول الداعمة)، أو تراجع الدعم الذي يحصل عليه الجيش من عدد من دول الجوار والقوى الإقليمية، في ما يبدو تواضعاً على تهميش الملفّ السوداني في حال عدم القبول بآليات الوساطة السعودية، وتجاوز ثنائية البرهان - «حميدتي» برمّتها، إلى رؤية تلك الأطراف لشكل الدولة في السودان ومستقبله، وضرورة إحكام السيطرة الكاملة على دوره الإقليمي.

الوساطة الأميركية - السعودية: بين التأجيل وتهميش الأزمة
أعلنت الخارجية الأميركية، قبل أيام، على لسان مساعِدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي في، وقف مساعي وساطتها عبر «منبر جدة»، بسبب عدم نجاح الصيغة الحالية لها «على النحو المراد». وتضمّنت تصريحات «في»، التي جاءت أمام لجنة فرعية للشؤون الخارجية في مجلس النواب، دعوة صريحة إلى الحكومات الأخرى «للانخراط في فرض عقوبات» على أطراف الأزمة، وهو ما بدأت المملكة المتحدة النظر فيه بالفعل، فيما تخلّف الاتحاد الأوروبي عن المضيّ قُدُماً في اتّخاذ قرار سريع بهذا الشأن. كذلك، أعلنت واشنطن أنها ليست بصدد تعيين مبعوث خاص لها في السودان، مكتفيةً، بحسب «في»، بالنظر في ترقية دور السفير الأميركي، جون جودفري، في ما يؤشّر إلى استطالة متوقّعة في الأزمة، حتى في حال رجحان كفّة على أخرى. وعلى الخطّ السعودي، اكتفت الرياض بمحادثات هاتفية أجراها وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، مع رئيس «المجلس السيادي»، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، جدّد خلالها الأول الدعوة إلى «وقف جميع أشكال التصعيد، والمضيّ في حلّ سياسي من أجل ضمان عودة الأمن والاستقرار».
أعلنت الخارجية الأميركية، قبل أيام، على لسان مساعِدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي في، وقف مساعي وساطتها عبر «منبر جدة»


وعلى رغم نجاح السعودية، ظاهرياً، في مؤتمر جنيف (19 الجاري) لحشد الدعم الإغاثي للسودان، وتعهّد الدول المشاركة فيه بضخ 1.5 بليون دولار للمتضرّرين من الأزمة (رصدت تقديرات تشرّد مليونَي سوداني داخلياً منذ 15 نيسان)، فإن المخاوف تجدّدت من عدم وصول المعونات المرتقبة إلى من يحتاجون إلها في ظلّ السلطة الحالية. وهي مخاوف عبّر عنها مسؤولون سابقون في حكومة عبد الله حمدوك (تثير عودة هؤلاء إلى تداول المسألة السودانية تساؤلات حول متغيّرات المرحلة المقبلة، واحتمال بدء التراجع التدريجي عن نتائج انقلاب تشرين الأول 2021)، داعين إلى توجيه أغلب هذا الدعم (الذي لم يُحشد فعلياً بعد) لدعم الموسم الزراعي الحالي في المناطق التي لا يضربها الصراع مثل الجزيرة وسنار والقضارف.

دول الجوار والأزمة: نحو تكريس الوضع القائم؟
كشف فشل مبادرة «إيغاد» في تحقيق أيّ من خطوط خريطة طريقها الأربعة، عن تراجع مذهل في قدرة دول جوار السودان (ومنها إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان) على تقديم حلول واقعية للأزمة. والظاهر أن هذه الدول بدأت تميل إلى تكريس الوضع القائم، ودفع الطرفَين إلى بدء محادثات سياسية مباشرة (وهو خيار يبدو حتى الآن غير واقعي). وفيما تقترب الأزمة من دخول شهرها الرابع، باتت الجارة الجنوبية للسودان (والتي نفت قبل أيام ما تردّد عن غلق حدودها) في مرمى نيرانها أكثر من أيّ وقت مضى، مع امتداد الصراع بشكل مكثّف إلى ولاية جنوب دارفور (التي تشترك في حدودها الإدارية مع كلّ من تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية جنوب السودان)، وهو ما عبّرت عن تخوّفها منه فرنسا التي نشرت قوات لها بالفعل على الحدود التشادية - السودانية، والتي تمتدّ جنوباً عبر شريط ضيّق لكنه بالغ الحساسية. ولربّما يمثّل خطر امتداد النزاع إلى جنوب السودان، تمهيداً لتدخّل دولي في المسألة السودانية، يتجاوز كثيراً نشر فرنسا قوات تابعة لها لمراقبة الحدود التشادية - السودانية، وخصوصاً في ظلّ تراجع محتمل لأنشطة مجموعة «فاغنر» في المنطقة.