استخدمت الكويت، أخيراً، لهجة حادّة في ما يتعلّق بالخلاف مع إيران حول حقل الدرّة الغازي في الخليج (تسمّيه الثانية حقل آرش). إذ أعلن وزير النفط الكويتي، سعد البراك، رفض بلاده «جملة وتفصيلاً الادعاءات والإجراءات الإيرانية المزمع إقامتها حول حقل الدرّة»، قائلاً إن «حقل الدرّة ثروة طبيعية كويتية - سعودية، وليس لأي طرف آخر أي حقوق فيه حتى حسم ترسيم الحدود البحرية». ثمّ أصدرت الخارجية الكويتية بياناً دعت فيه إيران إلى التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية مع الكويت والسعودية، بوصف الأخيرتَين طرفاً تفاوضياً واحداً. لكن السعودية انتظرت أياماً قبل أن تُصدر بياناً يحاكي ما خلصت إليه الكويت، اعتُبر مسايرة للأخيرة لدواعٍ تتعلّق بتاريخ العلاقات بين البلدين، أكثر ممّا هو انخراط في مشكلة مع إيران إلى جانب الكويت، ولا سيما وأن هذا النوع من المشكلات بين إيران وجيرانها الخليجيين لا يثير أزمات كبرى عادة. وكانت وزارة النفط الإيرانية قد أعلنت، قبل أيام قليلة، أنها قامت باتخاذ الترتيبات والدراسات اللازمة لتطوير وتشغيل حقل «آرش» المشترك، معتبرةً أنه «لا يوجد سبب لمزيد من التأخير إذا طوّر الجانب الآخر المجال من جانب واحد من دون اعتبار للمفاوضات السابقة حول الترسيم بين الجانبين».إزاء ما تَقدّم، يَجدر، ابتداءً، تنحية الخلاف التقني بذاته جانباً، باعتبار أن له أطراً للحلّ، إمّا من خلال مفاوضات الترسيم المباشرة، وإمّا، في حال لم يتمّ الاتفاق، بسبل أخرى منها التحكيم الدولي. والخلافات التي جرى حلّها بواحدة من هاتين الطريقتين في الخليج تُعدّ بالعشرات، ومثلها الخلافات التي لم تُحلّ بعد. ففي تلك المنطقة الغنية بالنفط، لا توجد دولتان ليس بينهما خلاف حدودي برّي أو بحري أو على ملكية جزيرة ما. وربما إذا أُجري إحصاء لعمل "محكمة العدل الدولية" التي تفصل في النزاعات الحدودية، لتَبيّن أن أكثر منطقة استهلكت وقت هذه المحكمة وجهدها هي منطقة الخليج. وبالانتقال إلى لهجة البيان الكويتي، فهي بدت موجّهة إلى الداخل أكثر منها استدعاءً لأزمة مع إيران، خاصة وأن عودة المشكلة إلى الواجهة أعقبتها حملة كويتية من معارضين لطهران ليس نادراً أن تحصل في الكويت، بسبب وبلا سبب، ولا سيما وأن المعارضة الكويتية تعتمد خطّاً أكثر تشدداً بكثير من سياسة الحكومة تجاه البلد الجار. ولعلّ ما ساهم في احتداد الموقف الكويتي أيضاً، أن المشكلة لا تتعلّق بموقف سياسي، كما حدث خلال الأزمة السورية مثلاً، وإنما بخلاف على الحدود البحرية، أي بالسيادة، ومسائل السيادة حسّاسة عند كلّ الشعوب، وأي «تنازل» سيُحسب على الحُكم فيها، وهو ما لا تتحمّله مؤسسات الحكم في الدول الخليجية التي تواجه مشكلات داخلية كبيرة وتحدّيات خارجية أكبر.
لكن ثمّة ملاحظات يمكن إيرادها في هذا السياق، وعلى رأسها أن الكويت، وانطلاقاً من الحاجة إلى العيش مع الجيران بسلام، كان يجدر بها أن تُميِّز موقفها الرسمي عن المواقف الشعبويّة التي يزايد بها نواب المعارضة، بعضهم على بعض. وقبل ذلك، أن لا تسعى إلى تحويل مشكلة ثنائية، إلى مشكلة متعدّدة الأطراف، وتحديداً أن لا تحاول الزجّ بالسعودية في خلاف جديد مع إيران في الوقت الذي يراهن فيه كثيرون على الاتفاق السعودي - الإيراني، لإراحة المنطقة كلّها من الكثير من المشكلات، علماً أن الكويت من بين أكثر المستفيدين من هذا التقارب، لأنه يوفّر عليها عناء التوتر مع إيران الذي لم يكن يوماً في مصلحتها، وإنّما وجدت نفسها أكثر من مرة مجبرة على الانحياز فيه ضدّ طهران، مسايرة لدول أخرى، وعلى رأسها السعودية في أغلب الأوقات.
السعوديون يؤكدون على وسائل التواصل أن المملكة «رسّمت حدودها البحرية» مع إيران، والمشكلة القائمة حالياً تخص الكويت


معروف أن الكويت تنسّق بشكل وثيق مع السعودية، وهذا يصحّ في ظلّ هذه القيادة السياسية أكثر من غيرها. كما معروف أكثر أن الكويت تنحاز إلى المملكة في غالبية المسائل، مرّة أخرى نظراً إلى العلاقات التاريخية بين الجارين. لكن من المفيد هنا رصد المزاج الشعبي السعودي؛ إذ ثمّة موجة انطلقت على وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بأن السعوديين لا يريدون الدخول في مشكلة جديدة مع إيران، ولسان حالهم يقول إن المملكة «رسّمت حدودها البحرية مع الجانب الإيراني»، والمشكلة القائمة حالياً هي بين الكويت وإيران، ويتعيّن على الكويتيين معالجتها بمفردهم. لا بل وصل الأمر إلى حدود التراشق الكويتي - السعودي، في العالم الافتراضي، بالاتهامات حول مَن دعم الآخر أكثر خلال الأزمات التاريخية التي عاشها كلّ من البلدين، ومن له فضل أكبر على الآخر. فيقول السعوديون إنه لولا الملك فهد لما كانت الكويت موجودة على الخريطة اليوم، ويردّ الكويتيون بأن مبارك الكبير استضاف عبد العزيز آل سعود عشر سنوات بين عامَي 1892و1902 حتى تمكّن من استرداد الرياض من إمارة آل رشيد، وإلا لما كانت السعودية موجودة اليوم.
وعلى رغم حدّة خطاب المعارضة الكويتية إزاء إيران، إلّا أن هذه ليست حال الشارع الكويتي الذي يتذكّر أن طهران وقفت مع الكويتيين حين غزا صدام حسين بلادهم عام 1990، ولم تسعَ لأيّ انتقام منهم، على رغم أن الكويت انحازت إلى صدام وموّلته (حتى بثمن حِليّ نسائها) خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، والتي انتهت قبل سنتين من الغزو فقط، ليتّضح للأولى أن الوحش الذي ساهمت في تربيته، التهمها، وأن الله وحده هو من انتزعها من بطنه. ومع ذلك، هي لم تسامح العراقيين الذين ظلمهم صدام أكثر ممّا ظلمها، بقرش واحد من التعويضات التي بلغت 52 مليار دولار، إذ ظلّت بغداد تسدّد دفعاتها إلى ما قبل سنوات قليلة، فقط لأن الأمم المتحدة وقفت في صفّ الأولى. ثمّ إن الكويت والسعودية بالكاد أنهتا خلافاً على الإنتاج في المنطقة المقسومة في الخفجي على الحدود بينهما، أي على مرمى حجر من حقل الدرّة، باتفاق وقّعتاه عام 2019، بعد خمس سنوات من توقيف شركة «شيفرون السعودية» الإنتاج من جانب واحد لأسباب اُدّعي أنها بيئية في ذلك الوقت، وأثارت انزعاج الجانب الكويتي. وذاك لم يكن الاتفاق الأول ولن يكون الأخير على الأرجح، ضمن هذا الخلاف الحدودي الممتدّ منذ قيام الدولتين.
يتأفّف الكويتيون حين يُتّهمون بالتآمر على أحد من جيرانهم، وهم محقّون في تأفّفهم، لكثرة ما واجهوا من هذه الاتهامات التي ليس أقلّها أنهم جلبوا الأميركيين إلى المنطقة، بينما الذي جلبهم في الواقع هو من اعتدى على الكويت. فالأخيرة دولة صغيرة من مصلحتها أن تعيش بسلام مع دول مجاورة أصغرها يكبرها بعشرة أضعاف. لكن من يستطيع أن يُقنع أصحاب نظرية المؤامرة اليوم بأن الكويت في هذه الأزمة المستجدة لا تعمل «بالاتفاق مع الأميركيين لتعطيل الاتفاق السعودي - الإيراني؟». ليس مؤدى ما تَقدّم، أن الكويت تنتهج سياسة عدائية ضد إيران، فالعلاقات بين البلدين جيدة نسبياً، وربما يعود جزء كبير من الفضل في إرسائها على هذا النحو، إلى الأمير الراحل، صباح الأحمد الصباح، الذي انتهج سياسية متوازنة ليس إزاء طهران وحدها، وإنما اتجاه كل الخارج القريب والبعيد، ومن ذلك موقفه إبان أزمة مقاطعة قطر وقبلها خلال الأزمة السورية. لكن ثمة تغييراً سياسياً ملحوظاً في الكويت منذ تولي القيادة السياسية الجديدة مقاليد السلطة، يتمثّل في المصالحة مع المعارضة. وإذا كانت هذه المصالحة مستحقّة، فهي لا تستدعي بالضرورة مسايرة خطّ المعارضة المتشدّد إزاء الجار الإيراني.