غابت أسماء كثيرة عن المشهد الثقافي الفلسطيني، وخاصة ما عُرف بجيل المؤسسين، الذي ترك فراغاً فادحاً وتراجعاً كبيراً في المشهد الثقافي الفلسطيني والإنتاج الأدبي والفني على صعيد الشعر والقصة والرواية والمسرح والأغاني والفن التشكيلي والإنتاج السينمائي، وإذا أخذنا مرحلة السبعينيات والثمانينيات كأداة قياس لتقييم الحالة الثقافية الراهنة، فإن التراجع هو سمتها الرئيسية، وذلك لأسباب كثيرة، منها ما حصل بعد سنة 1982، وتشتت الكتّاب والأدباء الفلسطينيين وانقسامهم حول مجريات اجتياح وحصار بيروت، إذ اعتبر بعضهم ما جرى هزيمة، وبعضهم تحدّثوا عن أسطورة الصمود والانتصار.والتراجع أيضاً كان بسبب اتفاق أوسلو الذي أصاب الثقافة الفلسطينية بجروح بالغة الخطورة، وأدى إلى غياب المؤسسة أو المرجعية الثقافية الجامعة، وظهور المثقف الموظف على حساب المثقف الثوري، الذي تحضر فلسطين ومقاومتها في خاطره ويومياته وإبداعه ومساهمته في الحراك الثقافي والإنتاج الفني والأدبي، منسجماً مع روح الكلمة والنشيد والأغنيات الثورية التي لا تزال تحضر في المناسبات الوطنية والاجتماعية، مع وجود مفارقة عجيبة، بأن تلك الأغنيات الثورية، ومنها «طل سلاحي» و«طالعلك يا عدوي طالع» و«جر المدفع فدائي» و«رايحين نقول نريدا من رفح للناقورة»، تحضر أيضاً في ذكرى إنشاء السلطة الفلسطينية التي تطمح أن تعطيها التسوية مع الاحتلال والإدارة الأميركية (دولة) على الأراضي الفلسطينية التي احتلت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية بعامين أي في عام 1967.
وبسبب هذا التراجع طرأت على الثقافة الفلسطينية تحولات كثيرة، منها التحول من ثقافة منفى إلى ثقافة منفية عاجزة أمام تفشي حالة الإذعان السياسي، وانعكست هذه الحالة حتى على الأغاني، فبعد أن كانت تذاع أغنية فرقة العاشقين: «كنا نغني بالأعراس جفرا عتابا ودحية، واليوم نغني بالرصاص، عالجهادية عالجهادية»، أمسى المطلوب وتماشياً مع الواقع السياسي الجديد، إذاعة أغنية: «هز الكتف بحنية جفرا عتابا ودحية»، وهذا يعبر عن حالة الانكفاء وغياب الرؤية الثقافية الوطنية الجامعة، واستمرار الهوة بين المثقف والسياسي الذي همّش الثقافة والمثقفين. هذا إضافة إلى غياب مؤسسات منظمة التحرير عن المراكز الثقافية، وغياب المراكز الثقافية للفصائل الفلسطينية، وانعدام شبه كلي للدعم المالي للعمل الثقافي مقابل الدعم المالي الكبير لأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، مع أن منظمة التحرير كانت تعطي في السابق للعمل والإنتاج الثقافي أولوية مميزة من خلال الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين، وعبر إنشاء المراكز والمؤسسات وإصدار الكتب والصحف والمجلات التي ساهمت في ترسيخ الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني وإغناء المشهد الثقافي بشكل عام العام.
لكنّ المنظمة الآن فقدت دورها الثقافي، ومن يتحمّل ذلك هم المهيمنون على النظام السياسي الفلسطيني الذين فتحوا الأبواب أمام أنشطة وبرامج ثقافية تقام وفق أجندة المموّلين، البعيدة كلياً عن ثقافة الشعب الفلسطيني وتطلعاته وأولوياته على صعيد المقاومة والعودة والتحرير. وفي هذا السياق ظهر المثقف المرتبك الذي ينشر اليأس والإحباط، بما يتعارض مع دور المثقف المشتبك الذي يأخذ دوره في نشر الوعي وشحن الهمم وزرع الأمل في الروح التي تقاتل وترفض الرضوخ والاستسلام.
والمطلوب اليوم من أجل تصويب الحالة الثقافية، إعادة إحياء المشروع الثقافي الفلسطيني مجدّداً وبناء مؤسساته عبر إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير وفق استراتيجية كفاحية واضحة يكون فيها للمثقف المشتبك الدور الذي يساهم من خلاله بإبراز القضية، ويحوّل صوت الفرد إلى صوت للشعب والمقاومة.