تراجَع الجدل الدائر مصرياً حول ملفّ سدّ النهضة بعد زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، «المطَمئنة» للقاهرة منتصف تموز الماضي، ثمّ عاد ليتجدّد مع إخفاق الاجتماع الوزاري الثاني الذي عُقد في أديس أبابا نهاية أيلول الفائت في التوصّل إلى تفاهمات تقود إلى إقرار اتفاق ملزم حول تشغيل السدّ. وإذ أشارت مصادر متعدّدة، وقتها، إلى طرح مسألة «خفض حصّة مصر من مياه النيل» مقابل الوصول إلى اتّفاق ملزم، نفت القاهرة ذلك، مع الأخذ في الحسبان أن مسألة «حصص المياه التاريخية» غير مطروحة في الأساس في المحادثات الماراثونية بين دولتَي المصبّ (مصر والسودان) من جهة، وإثيوبيا من جهة أخرى، وأن طرحها يعني تراجعاً خطيراً في مجمل المقاربة للملفّ. لكن الأكيد، على أيّ حال، أن مصر باتت رسمياً واحدة من أفقر دول العالم لناحية نصيب الفرد من المياه.
محادثات «ماراثونية» وانتصار إثيوبي
جاء إعلان آبي أحمد (مطلع أيلول) إكمال بلاده الملء الرابع لبحيرة سدّ النهضة بين توقيتَين مهمَّين: الأوّل لمحادثات القاهرة التي لم تسفر سوى عن استجابات إثيوبية تقليدية، وتراجُع عن تعهّد رئيس الوزراء الإثيوبي في زيارته لمصر بالالتزام بجدّية أكبر بالمحادثات، وصولاً إلى اتفاق لم يحدّد ماهيته (لا سيما مسألة إلزاميته وفق ما تطالب به مصر منذ سنوات)، والثاني لاجتماعات أديس أبابا (بدأت في 23 أيلول) التي انعقدت تحت عنوان «الجولة الثانية من التفاوض الثلاثي حول التشغيل السنوي لسدّ النهضة الإثيوبي العظيم»، وتعهّد المسؤولون الإثيوبيون قبل انطلاقها بـ«التزام بلادهم بالتوصّل إلى حلّ تفاوضي وودّي عبر العملية الثلاثية الدائرة»، إلّا أنه، وبعد نحو 24 ساعة من انطلاقها، أعلنت وزارة الريّ المصرية انتهاءها «من دون تقدّم يُذكر»، متّهِمةً إثيوبيا بأنها «ترفض الأخذ بأيّ من الحلول الوسط المطروحة، والترتيبات الفنّية المتعارف عليها دولياً بشأن السدّ»، وبأنها «تراجعت عن توافقات سابقة التزمت بتعميقها مع مصر والسودان»، وهو ما عُدّ إقراراً مصرياً بإخفاق الجولتَين معاً، وألقى بشكوك قوية حول أيّ محادثات مستقبلاً.
في المقابل، وفي ظلّ تراجع سوداني واضح على خلفية التطوّرات الأخيرة في السودان والتي تَدخل شهرها السابع منتصف تشرين الأوّل الجاري، رأى مراقبون إثيوبيون أنه، بعد 12 عاماً، وصل السدّ الإثيوبي إلى مرحلة فاصلة، بإعلان آبي أحمد، في 11 أيلول الفائت، إكمال الملء الرابع، فيما كشف مدير المشروع، كيفلي هورو، أن بحيرة السدّ تخزّن «الآن» 42 بليون متر مكعّب، وأن مستوى اكتمال المشروع لمس نسبة 93% بوصول ارتفاع السدّ إلى 620 متراً (لا يتبقّى سوى رفعه 25 متراً فقط للوصول إلى ارتفاعه النهائي المتمثّل في 645 متراً). ولم تلقِ أديس أبابا بالاً لاحتجاج الخارجية المصرية بأن الملء «لم يأخذ في الحسبان مصالح دولتَي المصب وأمنهما المائي»، وتأكيدها أن عملية الملء (على النحو الذي تمّت به) تمثّل انتهاكاً للقانون الدولي. كما رأت تقارير إثيوبية («أديس ستاندارد»، 21 أيلول) أن «مسألة النيل» تتجاوز موقف مصر من استخدام المياه، بل إنها تشمل «الشرعية الحكومية، والهوية الثقافية، والمصالح الاقتصادية، والنفوذ السياسي الإقليمي الأوسع»، وهو ما يكشف عن قصور مصري واضح وغير مبرَّر في مقاربة الملف برمّته من زوايا سياسية ضيّقة، وربّما ربطه بتوجّهات ووعود قوى إقليمية ودولية ثبت تبخّرها عند كلّ اختبار جدّي، في مقابل دينامية إثيوبية واضحة قادرة على توظيف الظروف الإقليمية لمصلحتها على نحو كامل.

سدّ النهضة ومشروعات الهيمنة الإقليمية
لربّما مثّل ضمّ كلّ من السعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا إلى تجمّع «بريكس» الذي تقوده الصين، ولاعتبارات متفاوتة جداً، دفعة قوية نحو تعميق فكرة «تقسيم العمل» بين هذه الدول، التي تمثّل الصين عاملاً مشتركاً أوّلياً في ما بين اقتصاداتها. وفيما تتشعّب علاقة الإمارات بمصر عبر عمليات الاستحواذ الأخيرة «المجحفة» على عدد من أبرز الكيانات الاقتصادية الرابحة بالأساس (آخرها استحواذ «غلوبال إنفستمنت هولدنغ» الإماراتية على 30% من أسهم «الشركة الشرقية للدخان» التي يعود تاريخ تأسيسها إلى نهاية القرن التاسع عشر مقابل نحو 625 مليون دولار، مقابل تراجع حصّة «القابضة للصناعات الكيماوية» إلى 20.95%)، إلى جانب اتفاقات إستراتيجية لإدارة شركات إماراتية لعدد من الموانئ المصرية على البحر الأحمر لمدد متفاوتة، فإن الإمارات طوّرت علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع إثيوبيا في العامَين 2022 و2023 على نحو لافت، إذ وصلت التجارة غير البترولية بين البلدين عند نهاية 2022 إلى 1.4 بليون دولار، كما وصل إجمالي الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا إلى 2.9 بليون دولار غطّت قطاعات الكيماويات، والأغذية والمشروبات، والألومنيوم، والأدوية. ونوّه مسؤولون إماراتيون (نهاية آب الماضي) بلعب إثيوبيا دوراً حيوياً في استقرار القارة الأفريقية وتنميتها، معلنين أن «الإمارات تهدف إلى تقوية علاقاتها الثنائية اعتماداً على دورها التنموي عبر العمل مع شركاء حول العالم في المشروعات التي تعزّز التنمية المستدامة والمصالح المتبادلة».
وتبدو هذه السياسة، إلى جانب معطيات أخرى مِثل تمتّع الإمارات والسعودية بوضع حاكم في سياسات «صندوق النقد الدولي» تجاه مصر في الآونة الأخيرة، بمنزلة بلورة واضحة لمسار الهيمنة على الساحل الغربي للبحر الأحمر، مع الأخذ في الحسبان احتمالات حضور التطبيع الخليجي مع إسرائيل في صلب ذلك المسار. ويأتي هذا في ظلّ تراجع أفكار العمل الجماعي الدولتي في الإقليم، من قَبيل فكرة «مجلس الدول المشاطئة للبحر الأحمر» (الذي تبنّته السعودية قبل نحو خمسة أعوام)، لمصلحة اختراقات غير مسبوقة في بنية الأمن القومي التقليدي لدولة كمصر، وعبر سلسلة محكمة من فرض تنازلات مؤلمة على القاهرة، مقابل خدمة الأمن القومي لنظام آبي أحمد وسياساته الإقليمية (على نحو مباشر في واقع الأمر) في أكثر من مناسبة في الأعوام الأربعة الأخيرة. ويقود ما تَقدّم كلّه، في النهاية، إلى فهم حالة جمود ملفّ سدّ النهضة، بل وبروز دعوات - «خجولة» حتى اللحظة - من نخب أكاديمية مصرية (بعضها على صلة بصياغة سياسات القاهرة) إلى ضرورة الثقة بالدور الإماراتي في الملفّ، في ما يمثّل انتقالاً خطيراً من مرحلة غضّ النظر عن تورّط أبو ظبي في دعم موقف أديس أبابا، إلى مساعي تسويق التورّط المذكور، تمهيداً ربّما لخطوة حاسمة ومباغتة لغير مصلحة الموقف المصري.

مصر وإثيوبيا في «بريكس»: الحلّ على الطريقة الصينية؟
يبدو أن تسوية أزمة سدّ النهضة ستجري عن طريق «مقايضات إستراتيجية» ضمن عملية ضمّ إثيوبيا ومصر إلى تجمّع «بريكس» مطلع العام المقبل. ويعزّز هذا السيناريو بقوة، النظر إلى معايير ضمّ البلدَين الأفريقيَين إلى التجمّع، وتفاوتهما بصورة واضحة من الناحية الاقتصادية، إذ يمكن الدفاع هنا عن مقاربة «تكاملية» بين مصر بمواردها البشرية الهائلة ومقدّراتها الطاقوية وموقعها الإستراتيجي (على البحر الأحمر وشرق المتوسط والقريب من جنوب أوروبا) وقاعدتها الإنتاجية المتقدّمة نسبياً أفريقياً، وبين إثيوبيا التي تتمتع بموارد بِكر هائلة (مِثل الموارد المائية)، وتمثّل الباب الملَكي لنفاذ القوى الإقليمية والدولية إلى القرن الأفريقي وشرق أفريقيا رغم طبيعتها كدولة حبيسة. وإلى جانب أدوار دول كالإمارات والسعودية في «الاحتواء المزدوج» للبلدَين الأفريقيَين، ضمن مشروعات متعدّدة آخذة في التنفيذ على الأرض، فإن الصين (أحد أهمّ مموّلي سدّ النهضة والشريك التجاري الأول لإثيوبيا في العقد الأخير، والساعية إلى إقامة منطقة صناعية ضخمة في منطقة قناة السويس، والتي تمثّل لمصر أهمّ مورد مفرد للسلع بقيمة تجاوزت 20 بليون دولار في عام 2022) ستمثّل، بلا شكّ، الرافعة الاقتصادية الناجعة لتقديم حلّ للأزمة، وإن كان لا يصبّ بالضرورة في مصلحة القاهرة لاعتبارات مختلفة.
ووفق المسار الحالي، الذي يمكن تلخيصه في فشل مصري في اختراق المحادثات والتوصّل إلى اتفاق ملزم، وتعنّت إثيوبي مدعوم إقليمياً ودولياً، فإن «الحلّ الصيني» (الذي بدأت فكرته تدور في دوائر مصرية) يبدو واقعياً تماماً، وربّما يمثّل نوعاً من حفظ ماء الوجه للقاهرة (في ظلّ عزلتها المشهودة في هذا الملفّ، باستثناء دعم معنوي من «جامعة الدول العربية»)، بعد أكثر من عقد من «منازلات ديبلوماسية» كانت لأديس أبابا اليد العليا فيها. لكن «الحلّ الصيني» يرتبط، بطبيعة الحال، بقدرة بكين على توفيق مواقف شركائها في «بريكس» خلف رؤيتها القائمة على تصوّر كلاسيكي لمدّ النفوذ، عبر إقامة مشروعات إقليمية في أفريقيا (وغيرها)، يبدو أنها قد صيغت بالفعل، وأن مراحل تطبيقها ستبدأ مع مطلع عام 2024. أمّا أميركياً، فيُتوقّع تفعيل سياسة «دعه يعمل دعه يمرّ» التي تطبّقها الولايات المتحدة إزاء الحضور الصيني في القرن الأفريقي، في مقابل تراجع بكين في مواقع أخرى لمصلحة المبادرات و«الحلول» الأميركية، كما في حالة التسوية السياسية بعد وقف الحرب في إقليم تيغراي.
وهكذا، فإن بدائل الأمتار الأخيرة، قبل الملء الخامس وإكمال بناء السدّ المتوقَّع في منتصف العام المقبل، تبدو محدودة جداً أمام القاهرة، فيما أيّ تسوية دولية للأزمة ستكون مقبولة بالنسبة إلى مصر التي تتملّكها مخاوف من مشروعات مائية أخرى يلوّح بها المسؤولون الإثيوبيون بين حين وآخر. أمّا إثيوبيا، فتجاوزت، بفضل ديبلوماسية «واعية تماماً»، مطالبات مبدأ الفوز للجميع (في دول حوض النيل)، إلى موقع الاختيار من بدائل بالغة التنوّع والفائدة لمصالحها القومية في الإقليم.