ما حدث في الأمس في قطاع غزة، عدا عن أنه يُعطي أملاً بالتحرير من خلال المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة أيضاً، فهو بدا بمثابة الثأر الحقيقي لفلسطين من كلّ ما قاساه شعبها منذ ما قبل إقامة دولة إسرائيل عام 1948. تبادل الطرفان الأدوار للمرّة الأولى منذ ذلك التاريخ، مع فارق أن من كانوا في موقع التفوّق في عملية «طوفان الأقصى» هم أهل الأرض وليسوا معتدين. للمرّة الأولى مذاك، يكون الإسرائيليون هم من يجري تقتيلهم في الشوارع وطردهم من المستوطنات التي احتلّوها، لا الفلسطينيون والعرب. كان يوم ذلّ لإسرائيل، تماماً مثلما كانت هي تتفاخر بإذلال الفلسطينيين والعرب. حتى أعداد القتلى والجرحى والأسرى كانت «أعداداً عربية» لا إسرائيلية. فمتى سقط لإسرائيل مئات القتلى وآلاف الجرحى وعشرات الأسرى في يوم واحد؟ هي ليست المرة الأولى التي يُهزم فيها هذا العدو، لكنها المرة الأولى التي يعترف فيها بالهزيمة.في لبنان، حاولت إسرائيل تصوير انسحابها عام 2000، على أنه تخفّف من أكلاف بشرية ومادية لا داعي لها، ففي النهاية الحرب لم تكن على «الأرض الإسرائيلية». لكن ما حدث بالأمس يختلف، لأنه يجري في «عقر الدار»، والظهر إلى الحائط، فضلاً عن أن هندسة الهجوم ودقته وإتقان المشاركين فيه لأدوارهم والتقنيات المتطورة المستخدمة فيه، أظهرت وجود تحوّل كبير في موازين القوى لمصلحة المقاومة، سببه أن الأسلحة المتاحة في العالم الحديث، تمحو، بنسبة كبيرة، الفارق الذي كان قائماً طوال العقود الماضية لمصلحة العدو. الأسلحة الحديثة متاحة للجميع، والحرب هي حرب إرادات، وفي هذه تسجّل المقاومة تفوّقاً واضحاً.
لكن أهمّ ما في الحدث كان اللحظة التي وقع فيها، من حيث تحوّل موازين القوى في العالم أيضاً. وفي هذا المجال، ثمّة بعض الرمزيات، ومنها ما ورد في كلام رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، من أنه تحدّث إلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، ورئيس فرنسا ورئيس وزراء بريطانيا ليضمن حرية حركة إسرائيل. أي إنه يستنجد بالتحالف الغربي الذي دعم قيام إسرائيل وضمِن تفوّقها طوال العقود الثمانية الأخيرة. لكن إذا جاز أخذ حرب أوكرانيا كمعيار، فإن هذا التحالف مُستنزف ومُنهك ولا يستطيع الكثير. هناك رمزية أيضاً لإعلان الخاسر، الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وقوفه إلى جانب إسرائيل التي هي نفسها، ضنّت عليه بأن تمنحه الدعم الصريح نفسه في بداية الهجوم الروسي، لأنها تعرف أن ما يجري اليوم، يحصل في عالم مختلف.
بالأمس، سقطت نظرية أن الردّ الإسرائيلي الفعّال الوحيد على أيّ مقاومة، هو الذهاب إلى مزيد من اليمينية التي يقدّمها العدو للعرب بوصفها خياراً لا نهاية له. فاللغة التي تخاطب بها إسرائيل أعداءها، تقول إنه يوجد دائماً من هو أكثر يمينية، بمعنى أن ثمة مدى مفتوحاً للتصعيد. ما حدث يؤكد أن هذه صارت لغة قديمة. لا يعني ذلك أن العدو سيتخلّى عن تلك اللغة؛ فبالفعل لا خيار آخر لديه، لكنه صار يتلمّس أن هذا أيضاً طريق مسدود، وأن ما كان يغري الشعب الإسرائيلي للذهاب نحو مزيد من اليمين إلى ما لا نهاية، أي القدرة على الإيذاء، من دون دفع أي ثمن، أو بثمن بخس، انتهى، ناهيك عن أن اليمين فقد أصلاً مصداقيته لدى فئات واسعة من الإسرائيليين، لأسباب داخلية تتعلق بهوية الدولة، ولا تتصل بالصراع مع الفلسطينيين والعرب. ولذا، فإن هذه أول حرب تخوضها إسرائيل وهي مشطورة نصفين، بعد أن خاضت كلّ حروبها السابقة، وهي موحدة. وفي ما تَقدّم مقتل لليمين الذي يؤخذ عليه الآن أنه خاطر بأمن الدولة للحصول على مكاسب سياسية ضيقة، أو حتى شخصية. ومن هنا، بدأ خصوم نتنياهو منذ اللحظة شحذ سكاكينهم لتقطيعه بعد نهاية الحرب.
أهمّ ما في الحدث كان اللحظة التي وقع فيها، من حيث تحوّل موازين القوى في العالم أيضاً


لكن الحرب هذه، من منظار صراع الوجود مع الفلسطينيين والعرب، هي حرب مصير، وليست حرب أشخاص أو قوى سياسية. فكذبة الدافع الديني إلى البقاء على أرض فلسطين، لن تظلّ إلى الأبد تنطلي على الإسرائيليين الذين صاروا عملياً وقوداً للحروب. الدافع الحقيقي للهجرة إلى إسرائيل كان الكراهية لليهود في أوروبا والإغراءات المادية. هذا هو الذي سيفكّر فيه الإسرائيلي اليوم حين يفاضل بين خيارَي البقاء أو الرحيل. هل تستحق الإغراءات المخاطرة بالحياة؟ ذلك على المستوى الفردي. أمّا على مستوى الوعي الجماعي للإسرائيليين، فإن الأمر بلا شكّ أصعب. هنا، ثمّة ما يدفع إلى العناد، لأن انهيار إسرائيل سيؤثّر معنوياً على الهاربين إلى ديار الهجرة المعاكسة إذا ما اضطروا للعودة إليها. ومع ذلك، يظلّ الأمر مقروناً بالثمن والزمن. إلى متى؟
ولا تقف مصيبة القيادة الإسرائيلية عند هذا الحد. فثمة احتمال كبير لأن يؤثر ما يجري على وضع إسرائيل في المنطقة، حيث كانت هذه القيادة تفرك يديها استعداداً للحصول على جوائز كبرى من نوع التطبيع مع السعودية. في أقل الأحوال، تغيرت دينامية ذلك الآن. كان السؤال الأساسي الذي ألحّ مذيعو قناة «العربية» في طرحه على محلليهم يتمحور حول ماهية الرد الإسرائيلي، وكأنهم كانوا يعقدون كل رهاناتهم على هذا الرد. أما على المستوى الشعبي، فالأمر محسوم من الأساس: الناس ضد التطبيع، ويتعين الآن تخيّل ما سيكون عليه ردّ هؤلاء الناس إذا طُلب منهم الاختيار بين محمد بن سلمان ومحمد الضيف. أكثر من ذلك، ما هي الرسالة التي ستفهمها الأنظمة العربية نفسها، وتحديداً الخليجية، الباحثة عن حماية لها، من الاعتماد على التحالف الغربي وإسرائيل بعد ما حدث؟ ومع هذا، تجد هذه الأنظمة نفسها بلا خيارات، لصعوبة فكّ ارتباطها مع أميركا وإسرائيل. فلْنطرح السؤال معكوساً: هل كانت الأنظمة المذكورة ستصمد كلّ تلك العقود لو لم تكن إسرائيل موجودة وأميركا تحميها؟
في الخلاصة، يقف الإسرائيلي العادي الذي هرب بثياب النوم من مستوطنات «غلاف غزة»، وذلك الذي تلقّى القصف في أماكن كثيرة أخرى من فلسطين المحتلة، إضافة إلى قيادته، والأنظمة العربية والتحالف الغربي، أمام أسئلة كبرى تبدو الإجابات عليها مستعصية إلى الآن.