غزة | سعى وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، يائساً، إلى انتشال معنويات جنوده على تخوم غزة من الحضيض الذي انحدرت إليه، مبلغاً إياهم بأن أيديهم محرّرة من القيود، ومستحضراً «المحرقة» النازية لتخويفهم من المصير الذي ينتظرهم إذا ما هُزمت إسرائيل. لكنّ الوقائع على الأرض عاكسته كثيراً، إذ ثبّتت المقاومة، أمس، معادلة أخرى هي «التهجير مقابل التهجير»، من خلال إنذار سكان عسقلان بإخلائها، ومن ثم قصفها بمئات الصواريخ في نهاية المهلة المحدّدة، تماماً كما يفعل العدو مع غزة. وبعد أربعة أيام لم يستطع فيها الجنود التقاط أنفاسهم، ولم يستيقظوا من هول الصدمة، أبلغهم غالانت بـ«أننا حُرّرنا من كل القيود، وقد استعدنا السيطرة على القطاع ونتجه نحو الهجوم»، مضيفاً أن «حماس أرادت التغيير في غزة، ومن حقّكم أن تديروا العجلة عليها، فمن يأتي لقطع الرؤوس وقتل النساء والناجيات من المحرقة، سنقضي عليه في ذروة قوتنا وبدون تنازلات». وتابع أن «ما رأيناه في المستوطنات كان مجزرة. في المعارك انتصرتم. نحن نثق بكم، ونشكركم على ذلك. الجيش موجود ودولة إسرائيل موجودة. سنعود إلى هنا، إلى بئيري خلال بضعة أشهر، وستكون الأمور مختلفة، سنصلح الكيبوتس حتى آخر متر، وما حدث في غزة لن يحدث مرة أخرى».ولكنّ أحداث الميدان عاكست الوزير «الليكودي»؛ إذ ظلّت المقاومة ممسكة بزمام المبادرة، بعكس ما حاول هو أن يوحي به. ورداً على اعتماد العدو سياسة تهجير المدنيين من غزة، عبر الطلب منهم مغادرة منازلهم خلال مهلة معينة تمهيداً لقصفها بضراوة، اعتمدت «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، الأسلوب نفسه مع الإسرائيليين، من خلال إنذار سكان مدينة «عسقلان» بإخلائها، ومن ثم قصفها بعد ذلك لساعات. ففي الساعة الثالثة من عصر أمس، أعطى الناطق العسكري باسم الكتائب، أبو عبيدة، مهلة مدّتها ساعتان لمستوطني «عسقلان»، لمغادرة المدينة، على أن تبدأ الكتائب باستهداف موسّع لها. وفي ساعة الصفر، عند الخامسة عصراً، كان يمكن لكل من يسكن غزة، رؤية المئات من الصواريخ، وهي تنطلق في لحظة واحدة في اتجاه «عسقلان». وعقب هذا، خرج أبو عبيدة في رسالة جديدة، أكّد فيها أن الكتائب ستستمر في قصف المدينة المحتلة إلى أن تُفرغ من سكانها، ثم ستنتقل إلى مدينة أخرى، وتعاود فيها الكرّة، إذ إن «التهجير لن يقابل إلا بتهجير مماثل».
وذكرت «القناة 14» الإسرائيلية أن إصابات سقطت في «عسقلان» بعد أن استهدفتها المقاومة، كما اندلعت النيران في أنحاء متفرّقة من المدينة، فيما أظهرت أشرطة مصوّرة سيارات محترقة ودماراً في المباني. وتعطي هذه المشهدية إجابات واضحة عن مستوى الثقة والاقتدار الذي تستشعره المقاومة في غزة، في مقابل الرواية الإسرائيلية التي تزعم تدمير جزء كبير من مقدراتها وإمكاناتها؛ إذ إن تفعيل هذا العدد الهائل من الصواريخ، على رغم القصف العنيف والتحليق المكثّف لطائرات الاستطلاع، يقدّم دلالات واضحة عن مستوى التحكّم والسيطرة بأدوات الميدان. كما أن إطلاق رشقات بحجم مئوي أمر غير مسبوق، في معركة تقدّر المقاومة أنها ستستمر طويلاً، ما يدلّ على اطمئنان كبير إلى المخزون الصاروخي الذي لم يهتزّ خلال أيام القتال الأربعة.
سيستمر القصف على «عسقلان» إلى أن تفرغ من سكانها، ثم يجري الانتقال إلى مدينة أخرى


ويوضح مصدر في المقاومة، في حديث إلى «الأخبار»، أن المعركة الجارية اليوم جرى التجهيز لها منذ حرب عام 2014، إذ إن ثمة صواريخ بقيت مجهّزة في مرابضها منذ تلك الحرب، ولم تستدعِ ضرورات الجولات الماضية استخدامها، وهي تُستخدم في هذه الحرب بشكل فاعل. ويبيّن المصدر أن «الصواريخ اليوم سلاح رديف، مهم فعلاً، لكنه ليس أساسياً. حتى اللحظة وعلى رغم تنفيذ الاحتلال أحزمة نارية على طول الحدود الشرقية والغربية البحرية للقطاع، يستطيع المقاومون اقتحام الحدود، والخروج منها. ويمكن التقاط المستوى المتقدّم من الثقة من هذا الجانب». ويضيف أن «كل ما يحدث الآن، يندرج في سياق المتوقّع. الجميع يعرف قدر الصدمة والصفعة اللتين تلقّاهما الاحتلال، وقدر الإجرام بحق المدنيين يعكس ذلك».
من جهته، يعتقد الكاتب والمحلل السياسي، إسماعيل محمد، أن «ثمّة فارقاً واضحاً بين حروب غزة الماضية، وهذه المعركة التي سمّاها الإسرائيليون حرب غزة الأولى». ويقول محمد، لـ«الأخبار»، إن «الفارق هو أن كل الحروب السابقة بدأتها إسرائيل، واضطرّت المقاومة للتعاطي معها، وكان الانتصار فيها يعادل إفشال المخطط الإسرائيلي من خلال الصمود، ومواصلة الفعل المقاوم في أدنى مستوياته. أما طوفان الأقصى، فهو الحرب التي بدأتها المقاومة في فعل مخطّط له ومدروس بعناية فائقة». ويعقد محمد مقارنة بين معركة «سيف القدس» عام 2021، و«طوفان الأقصى» الجارية حالياً، ويقول إنه في «سيف القدس تطوّرت الضربة الصاروخية الأولى إلى حرب واسعة، لأن الإسرائيلي كان يمتلك الخطط والمعلومات الاستخبارية التي راكمها طوال 7 سنوات. أما في عام 2023، فإن المقاومة تمتلك الخطة، والإسرائيليين لديهم ردة الفعل التي تلي الصدمة». ويلفت إلى أن «السلوك الإسرائيلي الحالي، يقوم على التدمير والانتقام، اللذين لا يقودان إلى تحقيق أهداف عسكرية مهنية. دمرت الطائرات حي الرمال، لكنّ الصواريخ بقيت تنطلق بغزارة. قصفت مئات المنازل والأحياء، وما زال المقاومون في داخل مستوطنات غلاف غزة، بل ويكرّرون اقتحامهم على رغم القصف المكثّف». ويتابع محمد: «ما أريد قوله، هو أن ما يقوم به جيش الاحتلال اليوم، هو الانتقام، ومعاقبة القطاع بتدمير مكوّنه البشري والحضاري والمؤسساتي. وهذا السلوك، يمكن أن يشبع غريزة الانتقام، لكنه لن يقود إلى نتائج مهنية على صعيد المقاومة، إذ ستنتهي الحرب بعد يوم أو شهر، وستكون المقاومة قادرة على إطلاق رشقات الصواريخ وتنفيذ العمليات».