غزة، القاهرة | ثلاثة عناوين سيطرت على المشهد في فلسطين المحتلة أمس: الأول، يتعلّق بتوسيع دائرة التغطية الأميركية والغربية للعدوان الإسرائيلي المفتوح على قطاع غزة وبقية الفلسطينيين؛ والثاني، يتّصل بالمساعي الأميركية المستمرّة لأجل تغطية عملية تهجير واسعة لأبناء القطاع نحو مصر، وهو ما يثير مشكلة كبيرة بدأت ملامحها بالظهور؛ والثالث، يرتبط بالاستعدادات الإسرائيلية لشنّ عملية عسكرية برية ضدّ القطاع. في الشقّ الأول، واصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، جولته، حاطّاً في عمّان حيث أكّد لملك الأردن، عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أن واشنطن لا تريد إطلاق أيّ تبريرات لما قامت به «حماس»، وأن الحرب الإسرائيلية للتخلّص من الحركة تشكّل مصلحة لحكومتَي رام الله وعمّان، رافضاً البحث في طلبات عباس الخاصة بسلطته، فيما طمأن عبدالله إلى أن عملية التهجير لا تطاول الضفة الغربية، طالباً منه الوقوف إلى جانب إسرائيل «في وجه عدو واحد هو حماس». أما في قطر، فقد أبلغ الوزير الأميركي المسؤولين هناك بأن الوقت غير مناسب للحديث عن وقف لإطلاق النار، لكنّه طالب، من جهة ثانية، بأن تمارس الدوحة ضغطاً كبيراً على «حماس» لأجل إطلاق سراح من سمّاهم «الرهائن غير العسكريين»، وخصوصاً الأميركيين منهم، عارضاً في المقابل إيصال مساعدات غذائية إلى غزة. وبحسب مصادر في «حماس»، فإن الاتصالات التي جرت معها، سواء من قِبل قطر أو تركيا أو بعض المسؤولين الغربيين، ركّزت على ملفّ الأسرى، فيما كان ردّها هي بأنه لا وجود لرهائن لديها، بل هناك أسرى حرب، وأن أميركا لا تملك أجوبة حول سبب انخراط مواطنيها ضمن الجيش الإسرائيلي. كما أكّدت الحركة أنها لا تجد الوقت مناسباً للحديث في هذا الملفّ الآن، وأن الأولوية هي وقف العدوان على المدنيين.في الشقّ الثاني، كشفت مصادر متابعة للاتصالات، أن الأميركيين يضغطون لأجل إلزام القاهرة بفتح ممرّات واسعة تتيح لعشرات الألوف من الفلسطينيين الانتقال إلى مصر. وقال الأميركيون إنهم أبلغوا المصريين بأن العملية «تستهدف نقلاً مؤقّتاً للمدنيين لأجل تجنيبهم الحرب القاسية الجارية هناك». ولفتت المصادر الانتباه إلى أن الجانب الأميركي «قال صراحة إن الأولوية الآن هي لنقل المدنيين خارج القطاع، وليس لإيصال مساعدات سوف تستغلّها حماس والقوى الأخرى في غزة». لكنّ المصادر أشارت إلى أن المصريين رفضوا مطلقاً هذا الطرح، وأصرّوا على ضرورة أن تسمح إسرائيل بفتح الحدود لنقل المساعدات العاجلة إلى داخل القطاع. وهو الموقف نفسه الذي سجّله المسؤولون في الأردن، بالتنسيق مع الحكومة المصرية.
وكان لافتاً أن عواصم عربية استعجلت إبلاغ قيادات في قوى المقاومة في فلسطين وبيروت، بأن فكرة تهجير أبناء غزة مرفوضة بقوة ولن تتحقق. وتبين لمسؤولين في قوى المقاومة أن الهدف من الرسالة هذه، هو محاولة إقناعها بأن لا تسارع إلى تصعيد في المواجهات رفضاً لمشروع التهجير. وقال موفدون من مصر وقطر إن الأيام القليلة المقبلة ستشهد ضغوطاً كبيرة من أجل إدخال المساعدات اللازمة إلى داخل القطاع، وأنه تمّ إبلاغ الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية دولية برفض استقبال أي بعثة لا تريد الدخول إلى غزة. وتبين أن القاهرة كانت تلقت طلبات من منظمات دولية تعنى بالإغاثة، لأجل فتح مكاتب لها في منطقة العريش بحجة توفير قواعد لوجستية لتوفير المساعدات لأبناء القطاع بعد إقفال إسرائيل معبر رفح من الجانب الفلسطيني.
معطيات «حماس» لا تشير إلى جهوزية لدى جيش الاحتلال لشنّ عملية برية، لكنّها فعّلت والفصائل الخطة الدفاعية


وكانت القاهرة، وعلى إثر تأكيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رفض تهجير أهالي غزة إلى سيناء، أطلقت أكبر حملة تبرّعات لدعم سكان القطاع، سواء بالمواد الغذائية والأموال، أو حتى من خلال التبرّع بالدم في ظلّ حاجة «الهلال الأحمر الفلسطيني» إلى كميات كبيرة منه سيَجري إدخالها مع المواد الطبية خلال الأيام المقبلة. وأبلغت مصر جميع المنظمات الدولية والحكومات العربية والغربية بأنها خصّصت مطار العريش لاستقبال المساعدات الإنسانية المقرّر إدخالها إلى القطاع، في أوّل تشغيل تجاري للمطار منذ سنوات. كما مارست القاهرة ضغوطاً عبر الاستخبارات ووزارة الخارجية لتأمين ممرّ للمساعدات، في حين تتواصل الضغوط عليها من أجل فتح ممرّ آمن للأفراد. ووفق مصادر مصرية تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن القاهرة لديها خطّة لإدخال كميات كبيرة من الوقود بشكل فوري، بما يسمح بتوفير تغذية لمحطّة الكهرباء الوحيدة في القطاع، إلى جانب تغذية كهربائية لأيام لمستشفى «الشفاء» وبعض المستشفيات الأخرى، وهي الخطّة التي تحتاج إلى أقل من 6 ساعات لتنفيذها، تتوقّف في خلالها الغارات الجوية، ويُحدَّد مسار آمن لتحرّك السيارات.
وأشارت المصادر إلى أن القصف الجوي المجنون دمّر أحياء كثيرة في المنطقة الشمالية، وأن العدو بدأ يلجأ إلى استخدام قذائف ضخمة بقصد استهداف ما يفترض أنها أنفاق هناك. ويجري الحديث عن احتمال لجوء الاحتلال إلى عملية شبيهة باجتياح لبنان عام 1982، لجهة السعي إلى السيطرة على القسم الشمالي من القطاع، وتدمير قدرات المقاومة فيه، والدفع بالسكان إلى الاتجاه جنوباً، ومن ثم نحو مصر. وفي هذا الإطار، حذّرت مصادر مصرية من أن مخطّط التهجير يحمل تداعيات كارثية سيكون من الصعب التعامل معها في المستقبل القريب، ليس فقط بسبب حجم الدمار الكبير المتوقّع في البنية التحتية ومنازل المدنيين، ولكن لضيق الوقت وصعوبة تحرّك المواطنين دفعة واحدة، فضلاً عن أن مسألة الإخلاء تعني ترجيح استهداف مزيد من المدنيين في الأيام المقبلة. وأكّدت المصادر أن «الحديث عن إيقاف التصعيد في الوقت الحالي ليس مطروحاً»، ولكن «البحث يجري راهناً فقط عن هدنة إنسانية لساعات وربّما ليوم واحد من أجل المدنيين العُزَّل»، وهو الأمر الذي تجري حوله «مفاوضات شاقّة ومعقّدة للغاية، خاصة مع الأميركيين، وبمشاركة خليجية ممثّلة بقطر».
أما بشأن الملف الثالث المتصل بالعملية البرية، فإن المعطيات المتوافرة لدى قيادة «حماس» في غزة، لا تشير إلى جهوزية واضحة لدى جيش الاحتلال لذلك، لكنّ الحركة وبقية الفصائل فعّلت الخطة الدفاعية، فيما يؤكد قادتها أن العدو تنتظره معركة قاسية وربّما أكثر قساوة من الذي حصل سابقاً. كما أكّدت المقاومة أن جهوزيتها مستمرة لأجل الاستمرار في إطلاق الصواريخ النوعية على العمق الإسرائيلي، حيث كان البارز أمس إطلاق صاروخ بعيد المدى وصل إلى منطقة صفد القريبة من الحدود مع لبنان، وهو صاروخ خاص، ويُجري العدو فحصاً لطبيعته. وكان أُعلن، صباح الجمعة، عن بلاغ إسرائيلي إلى الأمم المتحدة بوجوب تهجير سكان شمال غزة إلى جنوبها، في ما قالت مصادر متعدّدة إن الهدف منه التمهيد لعملية عسكرية تستهدف أساساً شمال القطاع، والذي يعتقد العدو أنه مقرّ إطلاق الصواريخ التي تهدّد عسقلان وتل أبيب وبقية العمق.
وقال مصدر في «حماس»، في حديث إلى «الأخبار»، ليل امس، إن قيادة «كتائب القسام» أجرت معاينة لقواتها ووحداتها المقاتلة بعد الغارات العنيفة، وإن حجم الإصابات في صفوفها محدود جداً، وإنه لم تتم إصابة أي نفق، وإن الأسلحة الخاصة بمواجهة الحملات البرية لا تزال سليمة كلها. وقال المسؤول إن الحركة «تعد مفاجآت لقوات الاحتلال التي قد تستخدم في هجوم بري سواء من شمال القطاع أو وسطه أو حتى جنوبه».
والواقع أنه إذا ما قرّر جيش الاحتلال البقاء في القطاع أو بعض المناطق فيه، فستَمثل أمامه تحدّيات كثيرة، وعلى رأسها الحاجة إلى قوة نارية كبيرة، والتنسيق بين القوات البرية وتلك الجوية، وتحمّل تكلفة الضربات التي سوف تتلقّاها وحداته في ظلّ تأهّب أكثر من 40 ألف مقاتل من «كتائب القسام»، والجهوزية التامة لآلاف المقاتلين من بقية الفصائل المقاوِمة. وبينما يحتاج الاجتياح البري إلى الدفع بمئات آلاف الجنود (نحو 400 ألف جندي من قوات الاحتياط)، فهو يوفّر مساحات كبيرة للمقاومين للقيام بعمليات إنزال خلف خطوط العدو ومهاجمتها من الخلف.
كما أن على جيش الاحتلال، إذا ما أراد تحقيق «إنجاز» تشتدّ حاجته إليه، السيطرة على المواقع المركزية مثل الطرق، وتنفيذ عمليات خاصة لاغتيال القادة العسكريين، ومحاولة إنقاذ الأسرى، وهذا ما يجعل الخسائر المتوقعة في صفوفه أكثر فداحة. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن المقاومة ستواجه الاجتياح بالعديد من الوسائل القتالية، وأولاها الأنفاق الداخلية في ظلّ تقديرات بوجود مدينة من الأنفاق أسفل قطاع غزة، ستسهّل على المقاومين تنفيذ عمليات كرٍّ وفر وخوض حرب شوارع ضد جنود العدو، فيما تخدم التضاريس المعقدة في غزة، والتي تبدو أشبه بمتاهة، المقاومة أيضاً، التي ستستفيد كذلك من الركام بتحويله إلى درع بوجه القوة النارية لجيش الاحتلال.