في عصر الديجيتال الحالي، تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي ساحة يتجمع فيها الناس من أنحاء العالم جميعها للتعبير عن أفكارهم ومشاركة تجاربهم والدفاع عن قضايا مختلفة. ومع نمو نفوذ هذه المنصات والحاجة إليها ومدى انتشارها، صارت تمارس رقابة على حرية التعبير تخدم أهدافاً سياسية وقيماً غربية ليبرالية، من دون أي اكتراث للتبعات. هي قوية لدرجة أنّها لا تأبه إذا بقينا نستخدمها أم لا.للعرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، علاقة مضطربة مع مارك زاكربيرغ ومنصاته المتعددة. الرجل يسلّط خوارزمياته ضد القضية الفلسطينية منذ سنوات. الآلاف من حسابات المؤثرين العرب أُسكتت عبر الحذف أو عبر ما بات يُعرف بالـ shadow ban، وهو أسلوب قذر مستجد، إذ يُترك الحساب ينشر ما يريد عن قضية معينة، ثم تمنع الخوارزميات ظهور المحتوى لدى المتابعين. وفي السنوات الأخيرة، أظهرت تقارير أنّ شركة «ميتا»، إلى جانب عمالقة التكنولوجيا الآخرين، شاركت في قمع انتقائي للمحتوى المتعلق بالقضية الفلسطينية، ما أثار مخاوف بشأن تأثير هذه المنصات في وصول حقيقة الصراع إلى العالم.


لم يكفِ غزة أن يحاصرها كيان العدو ويمنع عنها الغذاء والماء والدواء والكهرباء، والهواء لو استطاع. كان يجب أن يمنع الإسرائيلي نقل الصورة والمواد كلها التي تعبّر عمّا يحدث داخل القطاع. والدليل، اغتيال آلة الحرب الإسرائيلية للصحافيين في غزّة ولبنان. فسردية واحدة يجب أن تبرز: كيان العدو يُقاتل ذابحي أطفال، علماً أنّها قصة مفبركة عادت واعتذرت عن نشرها قناة «سي إن إن». لكن سبق السيف العذلَ! هنا، لا بد من الإشارة إلى أنّه لولا هامش التعبير الموجود حتى الآن على X، لكانت شعوب الغرب لا تزال أسيرة أكاذيب الاستخبارات الإسرائيلية والغربية وفبركاتها الإعلامية.
من يستخدم X لمتابعة أخبار الحرب، يُفاجأ بجموع المستخدمين الجدد الآتين من فايسبوك وإنستغرام وثريدز. يتحدثون عن قمع غير مسبوق واجهوه على تلك المنصات، وتحديداً إنستغرام التي منعت البث المباشر وأزالت المحتوى وحجبت رؤية حسابات المستخدمين، كما حظرت هاشتاغات معينة مثل alaqsaflood# وhamas#. من ناحيته، فعل فايسبوك الأمر نفسه مع هاشتاغات باللغة العربية متعلقة بـ «طوفان الأقصى». القاسم المشترك بين القمع الذي واجهه المستخدمون، تعرُّضهم للـ shadow ban. فعلى سبيل المثال، من وضع «ستوري» أو نشر «فيديو قصيراً» (Reel)، وجد أنّ هذه المنشورات لم يرها أحد سوى حسابين على أبعد تقدير. ولمواجهة خوارزميات «ميتا»، ينقل المستخدمون تجاربهم الخاصة عن الـ «حيل» التي نجحت معهم حتى الآن للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني. فمنهم مثلاً من كتب نصاً أو نشر فيديو، ضمّنه «إيموجي» علم كيان الاحتلال. وهناك من اعتمد أسلوباً أكثر تحايلاً ودهاءً، عبر الكتابة باللغة العربية القديمة (اى مں دوں ٮٯاط) التي لا تستطيع خوارزميات زاكربيرغ فهمها. علماً أنّها ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها مناصرو فلسطين إلى هذا الأمر في مواجهة طواغيت السوشال ميديا (يمكن تجريد النصوص العربية من النقاط عبر موقع: seen-arabic.github.io/Arabic-Services/old-arabic).
في الحروب الإسرائيلية على فلسطين، يظهر أمر متكرر يتمثل في قمع يستهدف مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الفلسطينيين. والجدير ذكره أنه في عام 2021، فرض إنستغرام رقابة مؤقتة على المنشورات المتعلقة بالمسجد الأقصى في القدس المحتلة. وفي العام الماضي، وفي أعقاب الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة، شكى المستخدمون الفلسطينيون الذين شاركوا صور الدمار على إنستغرام من إزالة منشوراتهم لانتهاكها «معايير مجتمع ميتا». في المقابل، مُنح المستخدمون الأوكران تصريحاً متفرّداً لمشاركة صور مماثلة، وهو ما بُرّر على أساس أنّها «جديرة بالنشر». في هذا الصدد، تقول مديرة الأخبار الفلسطينية في «موندويس»، يمنى باتل، في تقرير نشره موقع «ذي إنترسبت» يوم الأربعاء الماضي، إنّ الرقابة على الأصوات الفلسطينية والمدافعين المؤيدين للفلسطينيين ووسائل الإعلام البديلة التي تنشر تقارير عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي موثقة على نطاق واسع. وتشمل تعليق الحساب وإزالة المحتوى والحد من ظهور المنشورات. وأشارت باتل إلى أنّ وتيرة هذه الانتهاكات تميل إلى الارتفاع في مُدد العنف المتزايد والاهتمام العالمي بالوضع الفلسطيني، مستشهدة بحالات أثناء احتجاجات الشيخ جراح قبل عامين، والعمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية في العام الحالي، والحرب الحالية على غزة. وتكشف يمنى باتل عن قمع آخر واجهه الموقع الذي تعمل لمصلحته عبر تيك توك، إذ حُظر حسابه «نهائياً» أثناء تغطيته الأحداث الجارية في فلسطين. ومع ذلك، رُفع هذا الحظر بسرعة بعدما أضاءت وسائل الإعلام على المسألة. لكن رغم إعادة تفعيل الحساب، حجب تيك توك فيديوات الحساب في الضفة الغربية وأجزاء معينة من أوروبا.
إزالة صفحة «شبكة قدس الإخبارية» عن فايسبوك


انحياز ميتا الكامل لكيان العدو ليس مستغرباً. في هذا السياق، حُذفت أوّل من أمس السبت صفحة «شبكة قدس الإخبارية» عن فايسبوك، بعد تشغيلها لأكثر من 10 سنوات. وبعدها بساعات، تقدمت شركة البث الفرنسية «يوتلسات» بطلب لحجب «قناة الأقصى» التابعة لـ «حركة حماس» من وسائل الإعلام كافة. في الإطار نفسه، أصدرت «حماس» بياناً عبّرت فيه عن معارضتها الشديدة للحظر الذي وصفته بأنه «محاولة متعمدة لمنع وصول المعلومات عمّا يحدث في غزة إلى المواطنين في فرنسا». وأضافت أنّه «إجراء صهيوني متعمد ضد وسائل الإعلام التي تغطي الفظائع في غزة».
الحصار في عصر الديجيتال يأخذ أيضاً صورة قطع الإنترنت وقمع حرية التعبير على الويب. ما نفع تلك الهواتف الذكية كلها إن كانت لا تستطيع نقل ما يحدث؟ إجرام ووحشية غير مسبوقَين يريدان كسر الروح الإنسانية. يريدون للإبادة أن تحدث في العتمة. أن تتبخر عائلات بأكملها من دون نَفَس يعترض على ما يحدث.