كان يُفترض بالجيش الإسرائيلي أن يُباشر تنفيذ خياراته البرية في قطاع غزة، ما إن ينهي استعداده ميدانياً. لكن فجأة، قرّر التريث، وسط حديث متزايد عن مخاطر هذا الخيار، سواء بنسخته الموسّعة أو المحدودة، وإلى الحدّ الذي دفع الناطق باسم الجيش إلى القول إن «الخطط قد لا تتوافق مع التوقّعات الواسعة النطاق بشأن هجوم برّي وشيك، إذ من الممكن أن يكون هناك شيء آخر». بالطبع، قد يكون في حديث الناطق وغيره من التسريبات نوعٌ من التضليل قبل مباشرة العملية، إلا أن المؤشرات الآتية من دولة الاحتلال حتى الأمس، دلّلت على مراوحة في المكان فحسب، بهدف البحث في الخيارات المتاحة وجدواها، والمخارج السياسية لها. ولعلّ حديث الناطق العسكري عن أن «هناك شيئاً آخر» أسهم في تعزيز تعقيد المشهد، لصعوبة تحديد هذا الشيء، بل واستحالة تطبيقه في حال كان غير موجود في الأصل حتى الآن.ويأتي هذا بينما بات الخلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل واضحاً، ليس في ما يتعلق بالحرب نفسها وهدفها المتّفق عليه بين الجانبين، وهو «سحق» حركة «حماس» - إن استطاعتا إنجاز الهدف المذكور -، بل ربطاً بترتيبات اليوم الذي يلي الحرب، أي بالمخرج السياسي منها. فمنذ اليوم الأول لعملية «طوفان الأقصى»، بدا واضحاً أن إسرائيل تريد استعادة مستوى ردعها، وكيّ وعي أعدائها بشكل لا يفكّرون معه في إيذائها مرّة أخرى، وذلك عبر أعمال إجرامية من «خارج صندوق المعقول»، مع تطلّعها إلى مستويات مضاعفة من هذه الأعمال - وهو ما تجلّى مساء أمس في مجزرة مستشفى المعمداني -. أمّا في ما يتعلّق بتداعيات الفعل الإسرائيلي، فهو شأن عالمي، ولْيبحث فيه الآخرون!
هذا التفكير الإسرائيلي، والذي هو في الواقع وليد الصدمة، قوبِل بتفكير أميركي «عقلائي» نسبياً عنوانه: استعادة الردع لا يجب أن تكون على حساب ترتيبات اليوم التالي. وبالفعل، وجدت الولايات المتحدة أذناً منصتة في إسرائيل، وتحديداً من رأس الهرم السياسي فيها، أي رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، والوافدين الجدد من جنرالات وشخصيات وازنة أمنياً انضمّت حديثاً إلى الحكومة. لكنّ وزير الأمن، يوآف غالانت، وغيره من أصحاب «الرؤوس الحامية»، أبدوا التمسّك بهدف اقتلاع الفلسطينيين من القطاع، بهدف تثبيت معادلة ردع ممتدّ، لا تقتصر على القطاع فحسب، بل يُراد أن تشمل الساحات الأخرى. وإذا كانت إسرائيل انقادت سريعاً وراء إرادة الانتقام، في سلوك شبيه بذلك الفردي الذي ينبني على المصلحة الفردية المعروفة بـ«الماكرو»، فإن «الماكرو» تمثّل في نظرة أميركا التي كانت وما زالت أكثر شمولية، ومن وحي معياري كبير وأوسع.
بات الخلاف بين واشنطن وتل أبيب واضحاً ربطاً بترتيبات اليوم الذي يلي الحرب


أمّا الإشكاليات التي تطرحها الولايات المتحدة، والتي يُفترض أن تكون إسرائيل معنيّة بها أيضاً، فهي التالية: أيّ تداعيات يمكن توقّعها لمخطّط ترحيل الفلسطينيين وإنهاء وجودهم في قطاع غزة؟ وأيّ انعكاس إستراتيجي للمخطّط المذكور يُنتظَر على النظام المصري الذي يُعدّ ركيزة من ركائز الأمن الإسرائيلي، والأمن الإقليمي بما يرتبط بمصالح الولايات المتحدة؟ أيضاً، ماذا عن تهجير الفلسطينيين من شمال القطاع إلى جنوبه؟ ألن يعني ذلك انتقال التهديد مع احتمال تناميه لاحقاً، ليس في اتجاه إسرائيل فحسب، بل وأيضاً في اتجاه الجانب المصري أيضاً؟ بالنسبة إلى الأميركيين، فإن ما لا يمكن السماح به هو إنهاء إمكانية الحوكمة في قطاع غزة - سواء من قِبل «حماس» أو أيّ جهات أخرى -، أي منع قيام ترتيب سياسي وأمني في القطاع. كذلك، من بين الإشكاليات المطروحة أميركياً، الوضع على الجبهة الشمالية لإسرائيل، والتهديدات والتحذيرات التي صدرت من أكثر من جهة في المنطقة. في الواقع، بدت تل أبيب، في الأيام الأولى، مطمئنّة إلى أن واشنطن أخذت على عاتقها صدّ التهديدات الآتية من «حزب الله» والعراق واليمن وإيران، وأطلقت يدها في فعل ما تريد في قطاع غزة. إلا أن أميركا، التي أفرطت في تهديد قوى المقاومة في لبنان تحديداً، كان هدفها ولا يزال منع وقوع مواجهة إقليمية بسبب الحرب في غزة وفي سياقها، وبالتأكيد منع جرّها هي إلى قتال في الساحة الإقليمية.
على أيّ حال، يبدو واضحاً أن تجميد الخيارات البرية هدفه الاتفاق مسبقاً على المخرج السياسي، وفقاً للمحدّدات الأميركية، وليس فقط لمحدّدات إسرائيل الانتقامية. لا يعني ذلك أن الخيار البري بات منتفياً، بل أهدافه أضحت مختلفة، إذ سيكون مرتبطاً بترتيبات اليوم الذي يلي الحرب. ولعلّ ما تحدّث عنه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، يأتي في سياق البحث عن هذا المخرج السياسي، ما يعني أن «الشيء الآخر» بات يساوي في أهميته وحضوره، للخيار البري، من دون إمكانية تحديد ماهيته من الآن، كونه لم يتبلور بعد، علماً أنه لن يكون بالضرورة مساوياً في حجمه وشموليته للعملية البرية الواسعة.