قبل أن تقصف الطائرات الحربية الإسرائيلية مستشفى «المعمدانية» في قطاع غزة، بـ32 عاماً، ألقت الطائرات الحربية الأميركية، بعدما حامت يومين كاملين فوق حيّ العامرية في العاصمة العراقية بغداد وقتذاك، قنبلتَين «ذكيتَين» على الملجأ الرقم 25، أو الملجأ الذي حمل اسم الحيّ، وقتلت في داخله 408 عراقيين، جلّهم من النساء والأطفال، كان أصغرهم رضيعاً عمره سبعة أيام. قبل تلك المذبحة بـ46 عاماً أيضاً، ألقت المقاتلات الأميركية نفسها قنبلتَين ذريتَين على مدينتَي هيروشيما وناكازاكي، وقتلت ما يقرب من ربع مليون ياباني. بعد إبادة المدينتَين اليابانيتَين بعامين، ارتكبت العصابات الصهيونية عشرات آلاف المجازر إبان النكبة الفلسطينية، تكشّف آخرها قبل أشهر باعتراف مرتكبيها الذين اغتصبوا النساء الفلسطينيات في خضمّ ذبح ضحاياهم في الطنطورة المهجّرة، ولم يكن لديهم الوقت الكافي لتعداد هؤلاء الذين جرى دفنهم في مقبرة جماعية.لكنّ الرقم ليس مهمّاً بالنسبة إلى القائمين على ماكينة القتل الإسرائيلية، والتي ارتكبت مجزرة القرن الـ21 أوّل من أمس، إذ إن هذه الماكينة ما هي إلّا خليط من التصوّرات التلمودية الشريرة القابعة في أدمغة القادة الصهاينة وقلوبهم، والتي ترجمها العقل الإسرائيلي ابتكارات تكنولوجية قد لا تخطر على بال الشيطان نفسه، أُعدّت خصّيصاً من أجل إبادة الفلسطينيين. في اليوم الثاني عشر من الجحيم الذي تعيشه غزة، «برع» العقل التلمودي المتوحّش في صلب أطفال القطاع ونسائه ورجاله وجرّاحيه وممرضيه وأطبائه، والكنيسة والصليب نفسيهما، على المذبح، وهو عين ما يفعله منذ 75 عاماً، فيما لم يُعط لأحدٍ من هؤلاء المصلوبين الفرصة لأن يكبر فيقرّر بنفسه ما إن كان بمقدوره حمل خطايا العالم، وافتداؤهم بجسده.
في باحة المستشفى، وقبل يوم واحد من وقوع مذبحة «المعمدانية»، كان الأطفال الصغار يلهون في ساحة مليئة بالعشب والألعاب، وكان أولئك الذين يجهدون لأجل سماع صوت ضحكاتهم التي قطعتها رعود القصف لاحقاً، يمسكون بأيديهم صانعين دائرة بشرية حميمة. في اليوم الثاني، لم تبقَ يدٌ لتمسك بيد، فيما الساحة والألعاب والأعشاب صارت كلّها مطحنة للأعضاء البشرية الصغيرة. حتى «يوم الحساب» في «المخيال الإنساني» لم يبلغ هذه الفظاعة، فقد عجز عن تصوّر مشهد يركض فيه أب يحمل أطفاله أشلاءً في أكياس المتاجر، وأمّ تنادي رضيعها: «يما قوم ارضع»، وأخ يناجي شقيقه: «عم تسمعني... علّي صوتك».
أمّا ما حصل لعشب الحديقة فكان تحولاً كيميائياً وليس فيزيائياً، فهو حتى من دون «تدخل إلهي» ولا «عجيبة يسوع» استحال دماً، وصار شيئاً آخر تماماً، مادّة مختلفة. المستشفى نفسه، بلغ فيه الموت درجة ما فوق التشبّع، فتحوّل من مرفق صحّي إلى مقبرة جماعية وبيت عزاء مفتوح، يرتمي فيه من بقي قادراً على التنفّس في أروقة غارقة بالدماء. منصّة المؤتمر الصحافي للأطباء الفلسطينيين، كانت هي الأخرى غارقة في الجثامين الصغيرة الملفوفة بأقمشة بيضاء أو أكياس بلاستيكية. لقد تحوّلت إلى جزيرة نائية محاطة ببحر من الدماء، جزيرة نائية، لا تكاد نداءات الاستغاثة التي يُطلقها سكّانوها يسمعها أحد: لا وقود فيها ولا دواء ولا كهرباء ولا ماء.. ولا حتى «بنج» لإجراء العمليات الجراحية المعقّدة، فيما قد لا يكفي الكحول المتوفّر لتطهير الجراح المثخنة، والتي قد تصيب 365 كليومتراً مربعاً من فلسطين بـ»الغرغرينا».
«فلاسفة ومفكّرو» الإبادة والداعون - علناً - إلى تحويلها من النظرية إلى التطبيق، يسعون بحق لأن تصاب غزة بـ»الغرغرينا»، فيُستخدم بحقها أعظم عقاب على الخطايا، وهو عقاب البتر كما ينصّ عليه «التلمود» بالضبط. يرغب هؤلاء، وفق ما يجاهرون به، في أن يجعلوا من السابع من تشرين الأول 2023، «الكارثة الفلسطينية»، أي ما يفوق النكبة بمستواه. وبعد يوم واحد بعد المجزرة، يصل رئيس «أقوى إمبراطورية» في العالم إلى إسرائيل، «ملكاً» ينسى ما كتبه له «الفيل»، ويخطو على «رقعة الشطرنج» بخطى عرجاء، قبل أن يتّكئ على «قلعته» المتداعية، ويرتّب مواقع «الجنود». لم يتغيّر هذا الذي قذف أسلافُه بالنووي هيروشيما ونكازاكي، وبالقنبلة «الذكية» ملجأ العامرية... ولن يتغيّر. أمّا أولئك الذين قضوا في مجزرة القرن الـ21، فلن يستفيقوا ليصنعوا لنا شخصيات «إنمي» مشعّة من مثل تلك التي تَظهر في البرامج الكرتونية اليابانية، إذ قد لا يبقى أصلاً طفل يُعِدّ له أحدهم برامج كرتونية، أبطالها شخصيات «إنمي» مقطّعة!