حظيت جريمة قتل الطفل الفلسطيني، وديع الفيومي، على يد متطرّف سبعيني، في بلدة بلينفيلد (إلينوي) الأميركية، باهتمام خجول في وسائل الإعلام الغربية عموماً، وتلك الأميركية على وجه الخصوص، ربّما لأن الرأي العام في هذا البلد بات يألف "الإرهاب المحلّي"، أو "الإرهاب الأبيض" المستند إلى دوافع عنصرية. وأياً يكن، فقد ملأ "الإعلام الجديد" "فراغ" نظيره التقليدي، معوّضاً تقصير الأخير في تسليط الضوء على الجذور السياسية والفكرية للجريمة. واتّهم بعض روّاد تلك المواقع كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية الواسعة الانتشار داخل الولايات المتحدة، بالتخاذل في أداء دورها التوعوي في هذا الشأن، فيما اتّهمها آخرون بالتواطؤ مع تيّار اليمين الأميركي المتطرّف، والذي يميل تقليدياً إلى تبرير جرائم الكراهية بل والتحريض على ارتكابها، وذلك عبر أسلوب تغطيتها للأحداث في الشرق الأوسط، ولا سيما في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
"مؤشّر الكراهية" ضدّ المسلمين الأميركيين: منحًى تصاعدي
لاقت الجريمة، التي يمكن إدراجها في إطار جرائم "الإسلاموفوبيا"، استنكار عدد من الوجوه السياسية، فيما ذهبت بعض ردود الفعل إلى إظهار التعاطف "اللحظي" مع أهالي الضحية، مثلما فعل الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي كرّر "أسطوانته المشروخة" حول الولايات المتحدة كبلدٍ يتقبّل "قيم التعدّدية والديموقراطية"، مع تأكيده رفْض "معاداة الإسلام"، أسوة برفضه "معاداة السامية". من جهتهم، يرى خبراء في بشاعة الجريمة، ومدلولاتها المتّصلة بزخم متجدّد لخطاب الكراهية، وخصوصاً في صورة "الإسلاموفوبيا"، على وقْع تزايد مستوى التهديدات للمسلمين في الداخل الأميركي، في الآونة الأخيرة، وفقاً لتقارير أمنية رسمية، أعادت إلى الأذهان ذكريات أحداث أيلول، وما تلاها من ارتفاع دراماتيكي لذلك النوع من المضايقات وقتذاك، بنسبة لامست حدود 1617% خلال عام واحد فقط. وعلى ما يبدو، لا يقتصر التمييز ضدّ المسلمين، ولا سيما النساء، داخل الولايات المتحدة على المستوى الاجتماعي، بل يتعدّاه إلى المستوى السياسي أيضاً. وتُظهر دراسات غربية، أنّ ما يزيد على 40% من النساء المسلمات اللاتي أقدمن على الترشّح في الانتخابات الأميركية، على مدى السنوات القليلة الماضية، تلقّين تهديدات لفظية، ونسبة مشابهة وصلتهنّ تهديدات مكتوبة، فيما كشفت حوالى 20% منهنّ عن تعرّضهن لتهديدات جسدية. وهنا، يجدر التذكير بحجم الانتقادات التي وُجّهت إلى الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، لمجرّد أنه ينحدر من أصول إسلامية.
المنحى التصاعدي لِما يمكن وصفه بـ"مؤشّر الكراهية ضدّ الإسلام" في الولايات المتحدة، يمكن لحظه بسهولة خلال العقدَين الماضيَين. ووفقاً للبيانات، فقد سجّلت الهجمات ضدّ المسلمين، عام 2015 وحده، ارتفاعاً بثلاثة أضعاف. كذلك، تُظهر استطلاعات الرأي، أن نسبة مَن يحملون وجهات نظر سلبية تجاه الديانة الإسلامية كانت لا تتعدّى حاجز الـ39% فقط من الأميركيين خلال عام 2001، لترتفع إلى حوالى 61% بحلول عام 2011، قبل أن تتجاوز عتبة الـ70% خلال عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب. هذا "الترند" الثقافي العنصري المغرق في العدائية، والذي يُصبح "معولماً" يوماً بعد يوم، والمخالف لكلّ ما يدّعيه الخطاب السياسي الرسمي في الولايات المتحدة، ينسحب على المحتوى الفنّي أيضاً، السينمائي على وجه التحديد، وكذلك الإعلامي. وبالاستناد إلى دراسة حالية أعدّتها شركة "416Labs" للبحوث والاستشارات، ثَبت أن التغطية الخبرية والتحليلية في شأن المسائل المتعلّقة بقضايا الإسلام والمسلمين، على مدى 25 عاماً خلت، من جانب صحيفة "نيويورك تايمز"، التي تقدّم نفسها كمنصة "ليبرالية" عريقة، جاءت مثقلة بالإشارات السلبية، وأن 8% فقط من العناوين الرئيسة المتّصلة بالإسلام نضحت بمحتوى إيجابي. بدوره، يكشف جاك شاهين، في كتابه الذي يحمل عنوان "كيف تشوّه هوليوود صورة أمّة بأكملها؟"، أنه، ومن خلال تحرّي محتوى ألف فيلم سينمائي في دراسته، تمّ تصوير العرب في 932 فيلماً، على أنهم إرهابيون، أو شخصيات غير جديرة بالثقة، في مقابل 12 فيلماً فقط صوّرتهم بطريقة إيجابية، إضافة إلى 56 فيلماً آخر قدّمتهم بصورة محايدة بعيدة عن التحيّز.
المنحى التصاعدي لِما يمكن وصفه بـ"مؤشّر الكراهية ضدّ الإسلام" في الولايات المتحدة، يمكن لحظه بسهولة خلال العقدَين الماضيَين


بين "أحداث أيلول" والعدوان على غزة
نبرة التحذير من هذا الدَّرك الخطير الذي وصلت إليه أحوال الجالية المسلمة داخل البلاد، أخذتها على عاتقها جمعيات وشخصيات إسلامية فاعلة في المجتمع الأميركي، وفي طليعتها "مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية" (CAIR) الذي أكّد رئيسه، نهاد عوض، أن "ما يتعرّض له المسلمون الأميركيون اليوم أكثر خطورة ممّا تعرّضوا له عقب أحداث 11 أيلول"، علماً أن التحقيقات أظهرت أن منفّذ جريمة بلينفيلد، شديد التأثّر بدعاية "اليمين" الأميركي، بخاصّة إزاء الأحداث الجارية في غزة. وفي آخر مظاهر هذا "الترهيب" المتعدّد الأوجه، اضطرّ "CAIR"، وهو أكبر تجمّع للحقوق المدنية الإسلامية في الولايات المتحدة، قبل ساعات قليلة، لإلغاء فعالية مخصّصة لدعم فلسطين في أحد فنادق ولاية فيرجينيا بعد تهديدات تلقّاها باستهداف الحفل من قِبَل متطرّفين مجهولين. ويحذّر خبراء من أن سيطرة "هاجس الإرهاب الإسلاموي" على سياسات الإدارات الأميركية السابقة منذ "أحداث سبتمبر"، بخاصّة في عهدَي الرئيسَين "الجمهوريَّين" جورج دبليو بوش، ودونالد ترامب، جعلها قاصرة عن رؤية أشكال أخرى من "الإرهاب"، بما في ذلك تطرّف اليمين الأميركي، وهو ما يدينه الأكاديمي الأميركي في جامعة "جورج تاون"، دانيال بايمان، واصفاً إياه بأنه نهج "خاطئ"، كون "العنف اليميني" تسبّب بحصيلة ضحايا أميركيين (تُقدَّر بالعشرات) تقارب ما تسبّب به "العنف الجهادي" عقب "هجمات سبتمبر".
وفي السياق نفسه، أعرب ناشطون حقوقيون عن خشيتهم من نهج ذي طابع "إقصائي" و"تمييزي" تمارسه الإدارة الأميركية الحالية في حقّ أبناء الجالية المسلمة، ذلك أن دوائرها تتجاهل الخطر الأمني الذي يتعرّض له هؤلاء، وخصوصاً في ظلّ تفجُّر الأوضاع في الشرق الأوسط، على عكس الحرص الذي تبديه إزاء ما قد يتعرّض له أبناء الجالية اليهودية، لأسباب قد تكون مرتبطة بالحدث ذاته. وبالمقارنة مع عهد سلفه ترامب، يُحسب لإدارة الرئيس الحالي، جو بايدن، قيامها بتغيير ملحوظ في الخطاب الرسمي الأميركي تجاه المسلمين، من قبيل إعادة بايدن العمل بتقليد رئاسي قديم، يتيح الاحتفال بأعياد المسلمين في البيت الأبيض، كان قد ألغاه ترامب، فضلاً عن استضافة مقرّ الرئاسة الأميركية قيادات ونخباً من الجالية المسلمة للتباحث في ظاهرة "الإسلاموفوبيا". ومع ذلك، يلفت هؤلاء الناشطون إلى أن إدارة بايدن متواطئة في إدامة "الإسلاموفوبيا"، وإنْ بأسلوب مغاير، عبر استثمار هذه الظاهرة سياسيّاً، ولا سيما في الاستحقاق الرئاسي المرتقب العام المقبل، حيث تترسّخ صورة المسلم كـ"كبش فداء" سهل في مخيّلة الناخبين، في موازاة "التسامح" الذي تلقاه التصريحات المعادية للإسلام والمسلمين في المجال العام.
ومن جملة المؤشرات إلى عدم جدّية الإدارة الحالية في معالجة هذه الظاهرة، تلكّؤها في تعيين مبعوث خاص في وزارة الخارجية لمراقبة ومكافحة "الإسلاموفوبيا" - فيما ثمّة مبعوثون لمكافحة ظاهرة ما يُسمّى "معاداة السامية" -، فضلاً عن تسويف النواب من الحزبَين الديموقراطي والجمهوري على حدّ سواء، في إقرار مشروع قانون "مكافحة الإسلاموفوبيا الدولية"، والذي يسمح، في حال إقراره، بمحاربة خطاب الكراهية ضدّ المسلمين على المستويَين المحلّي والدولي بوصفه ظاهرة متشابكة ومترابطة (شركة الإسلاموفوبيا (العالمية)"، بعدما تبيّن تأثّر إرهابيين "بيض" محلّيين، بآخرين من دول أخرى، والعكس صحيح، على نحو يجعل هذا النمط من الإرهاب أشبه بالتشكيل العصابي العالمي.