بعد مرور 20 يوماً على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، صدر من تل أبيب حديث يمكن وصفه بـ«العقلاني»، عن الوزير الوافد حديثاً إلى الحكومة ومجلسها الحربي، بيني غانتس، إذ جاء بعيداً عن المبالغات والسقوف العالية، وإن حافظ بدوره على مسافة من الإقرار بالفشل. وفقاً لغانتس، فإن «المناورة البرّية» ليست إلّا مرحلة في مسار طويل الأمد، يشمل الجوانب الأمنية والسياسية والعسكرية والاجتماعية، وتتحدّد أهدافه بـ«تغيير الوضع الإستراتيجي في الجنوب، وإعادة الفتية والفتيات إلى حدودنا. كلّ هذا مع مواصلة النشاط الدفاعي والهجومي المطلوب في القطاعات الأخرى». وشدّد على أن تحقيق ذلك «لن يكون نتيجة مناورة برّية فحسب، بل نتيجة موقف وطني وجهد متكامل ومتعدّد المراحل». وأضاف: «سنعمل على إعادة تصميم الوضع، وستستمرّ الحرب ضدّ الإرهاب في غزة، في أراضي القطاع وفي عمقه، حيثما ومتى كان ذلك ضرورياً».ويعني كلام غانتس، الواضح والمباشر، أن الأهداف المحدّدة للحرب لن تتحقّق عبر «المناورة البرّية»، بل تتطلّب حرباً متعدّدة الاتّجاهات والمستويات، قد تستغرق سنوات طويلة لتثمر النتائج المطلوبة. وتكمن أهمية هذا الكلام في كونه صادراً عن عضو في «حكومة الطوارئ»، التي تضع خطط الحرب وتصادق على تنفيذها. كما أن غانتس ذو خبرة عسكرية وسياسية طويلة، ومتمكّن - ضمن الدائرة الضيقة - من الاطّلاع على المعطيات والظروف والقدرات، وتحديد الأهداف القابلة للإنجاز. إلا أن الحسم الذي يطبع حديث غانتس يمكن إعادة صوغه عكسياً، كونه يكشف الموقف الإسرائيلي الفعلي، وأبرز معالمه ما يلي:
أولاً، الخطوة البرّية مقبلة، لكنها لن تكون على صورة ما وعد الإسرائيليون أنفسهم بها.
ثانياً، لن تنتهي المواجهة مع انتهاء «المناورة البرّية»، أي إن نتيجة هذه الأخيرة لن تحدّد بالضرورة نتيجة الحرب.
أهداف غانتس، وإن كانت «معقولة» نسبياً، يرتبط إنجازها بمتغيّرات كثيرة، ليست كلها في حوزة أو تحت سيطرة إسرائيل


ثالثاً، الأهداف التي وضعتها إسرائيل لنفسها، فضفاضة وغير حاسمة وحمّالةُ أوجه؛ فإذا كانت إعادة الأسرى هدفاً معقولاً وواضحاً، يبقى هدفُ «تغيير الوضع الإستراتيجي في الجنوب»، غير واضح وغير قابل للقياس.
رابعاً: يطالب غانتس، عملياً، الإسرائيليين بتخفيض سقوف توقّعاتهم لناحية سحق «حماس» و«تغيير الشرق الأوسط»، بل أيضاً التراجع عن وضع مواقيت والاستعداد للانتظار سنوات طويلة، في حرب لن تكون عسكرية وحسب، بل مجالاتها أكبر من ذلك بكثير، سياسياً وأمنياً واجتماعياً.
خامساً: يعني ما تَقدّم أن الحرب العسكرية التي بدأتها إسرائيل، مع أو من دون الخطوة البرّية، لن تحقّق المطلوب منها، وفقاً لما يتوقّعه الجمهور الإسرائيلي، وهو ما يمثّل إقراراً بصورة غير مباشرة بالعجز، وإنْ في معرض تظهير الجدّية والتصميم.
بالنتيجة، يمكن القول إن كلام غانتس بدا أقرب إلى الواقع، وإن ظلّ بعيداً من الإقرار بالفشل، ليس فشل الماضي فحسب، بل فشل الحاضر والمستقبل أيضاً. وعليه، فهو عرض الخطوط العامة للمفهوم الإستراتيجي البديل في مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى»، مع قدر تمنيّات كبير نسبياً، ومرتبط إنجازه بمتغيّرات كثيرة، ليست كلها في حوزة أو تحت سيطرة إسرائيل و/أو أيّ من رعاتها وحلفائها. بعبارة أخرى، يدرك من على طاولة القرار الإسرائيلي صعوبة أو تعذّر أو حتى استحالة القضاء على «حماس» وباقي فصائل المقاومة في غزة، عبر الخيارات العسكرية. كما يدركون في الوقت نفسه أن الخيارات التي تتكامل مع الخيار العسكري تتطلّب فعل أقصى ما يمكن فعله ضمن دائرة هذا الأخير، وأنها تحتاج إلى وقت طويل ونجاحات في كلّ منها، فضلاً عن ظرف إقليمي ودولي يتعذّر من الآن تحديد مدى توافره.