أصبح واضحاً للجميع أنه لا يمكن فصل ما يجري في فلسطين المحتلة، وخاصة في غزة، عن تنامي دور معسكر المقاومة في المنطقة والعالم الذي ضاعف قوته السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، تحديداً خلال العشرين سنة الماضية، وأصبح نداً للغرب الإمبريالي، بل وأحياناً يتفوّق عليه في عديد من المجالات. هذا ما يفسّر استنفار القوى المعادية التي هرعت لنجدة الكيان ولتضع ما تعتقده «خطوطاً حمراً» أمام القوى الإقليمية، خاصة إيران وسوريا وقوى المقاومة في المنطقة فضلاً عن روسيا والصين. ولا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني، وهو صنيعة الغرب الإمبريالي، أوجدته بريطانيا من خلال وعد بلفور المشؤوم، وما قدّمته بعد الحرب العالمية الأولى للصهيونية العالمية في فلسطين من تسهيلات وأسلحة ورعاية، وانتقل تبنّيه للولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، إثر تراجع سيطرة الإمبراطورية البريطانية، حيث ورثت أميركا الاستعمار القديم وكل تركته.
ما حصل صبيحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 كان اقتحام مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين، لمواقع ومستعمرات الكيان المتاخمة للقطاع فهزّوا عرش البيت الأبيض وقصر الإليزيه والعرش البريطاني وألمانيا العنصرية، وشكّلوا تهديداً وجودياً على القاعدة الأولى التي أنفقت عليها الإمبريالية آلاف المليارات خلال السنوات الماضية، لتكون درعاً واقياً لها، ويدها الطولى في حال نشوء أي صراع يهدّد سيطرتها على هذه المنطقة.
ومما زاد الأمور تعقيداً أن هذه الضربة جاءت في ظل أكبر مرحلة تعويم سياسي يعيشها الكيان عبر توقيعه اتفاقات «سلام» مع عدة دول عربية وعقد لقاءات مكثّفة مع دول عربية أخرى على طريق توقيع معاهدات أخرى، وفي ظل خنوع وخضوع وتبعية سلطة أوسلو في رام الله، التي تشكل ذراع الصهاينة الأولى في قمع أي حراك أو فعل مقاوم فلسطيني في الضفة المحتلة، من خلال تنفيذها اعتقالات تستهدف كوادر المقاومة، وجمع المعلومات وإرسالها إلى «الشاباك» والأجهزة الأمنية الصهيونية والأميركية.
وكان مما زاد اطمئنان الكيان الصهيوني قبل السابع من أكتوبر إلى قوة موقفه، الأمر الذي ضاعف الصدمة والمفاجأة، «عزوف» حركة «حماس» عن المشاركة المباشرة في أي جهد عسكري واضح بعد معركة «سيف القدس»، حتى إن البعض أطلق على الحركة سهام التخوين، بعد أن خاضت حركة الجهاد الإسلامي معركتين كبيرتين مع الاحتلال «دون أن تحرّك حركة حماس ساكناً» كما بدا في الظاهر.
ويبدو واضحاً أن ما يميّز المعارك الكبرى الأخيرة التي تخوضها المقاومة، أن الجسم الفلسطيني أصبح يتحرّك بتناغم وتكامل كامليْن، وإن لم يكن بالشكل المطلوب، لكن ازدياد العمليات الفدائية في الضفة منذ أن تم إطلاق عملية «طوفان الأقصى»، وازدياد الاشتباكات على الحواجز على امتداد الضفة الغربية، أصبحا واضحيْن ومزعجيْن للاحتلال ومزعزعيْن لسلطة محمود عباس العميلة، حيث فشلت محاولات قمعها للمقاومة، فيما قدّمت جماهير الضفة الفلسطينية المحتلة في الفترة الماضية أكثر من 100 شهيد، وما زالت العمليات والصدامات مستمرة، وذلك رغم قيام بن غفير بتوزيع آلاف الأسلحة النارية على المستوطنين في الضفة الغربية.
وجاء قرار إعلان إسرائيل حالة الحرب ليمنع أهلنا في الـ48 عن التعبير أو الاحتجاج أو دعم المقاومة في غزة، لأن هذا الإعلان بمثابة إعلان للأحكام العرفية وإطلاق يد الجيش وأجهزة الأمن على كل من يعتقد أنه «يعبث بأمن الكيان» وكان من نتيجته سلسلة اعتقالات وتوقيفات ومحاكمات طاولت كل من يكتب أو يقول ما قد يفسره الاحتلال تأييداً لغزة أو حتى احتجاجاً على ما يحصل فيها من قتل ممنهج ومجازر مستمرة على أيدي عصابات الجيش الصهيوني، فضلاً عن سلسلة الاعتداءات التي تعرّض لها الطلبة والشباب العرب في الداخل على أيدي المتطرفين الصهاينة.
ولا يخفى على كل متابع، تغيّر الخطاب الروسي، خاصة تجاه ما يجري في فلسطين المحتلة، فهو وبعد معركة أوكرانيا اقتنع بما لا يدع مجالاً للشك أنه وفي أي صدام قادم سيكون موقع الكيان الصهيوني في الطرف المقابل للحرب، لذلك نرى تصريحين لافتيْن للنظر حين قال بوتين: «فلسطين هي أرض الفلسطينيين التاريخية»، وتصريحه الثاني الذي وجّهه إلى الأميركيين: «لماذا يرسلون أساطيلهم، لإخافة البعض هناك، إن فيها أناساً لا يخافون»، فضلاً عن أن السلاح الأساسي الذي ستستخدمه المقاومة في وجه أي تدخل بري هو سلاح الكورنيت الروسي الذي سبق أن كان عاملاً حاسماً في أيدي مقاتلي حزب الله في حرب عام 2006.
كما جاء إشهار الصين وروسيا للفيتو في مجلس الأمن على مشروع قرار أميركي يسمح للكيان باستمرار عملية القتل بحجة محاربة «حماس»، ومن ثم تقديم روسيا لقرار في مجلس الأمن يلزم الكيان بوقف العدوان على غزة، وموافقة الصين عليه واستخدام كل من بريطانيا وأميركا وفرنسا الفيتو، كل ذلك ليوضح أن التوازنات الدولية هي ما تحكم هذه المعركة، وليعرف الفلسطيني مرة أخرى من هو معسكر الأصدقاء -لا الحلفاء- ومن هو معسكر الأعداء.
وتأتي الهجمة الشرسة للحكومات الغربية على كل من يدعم فلسطين أو يحمل علم فلسطين أو يرتدي الكوفية، دليلاً واضحاً وجلياً على تغيير كبير في الرأي العام الأوروبي تجاه ما يجري في فلسطين المحتلة. هذا ما جعل الحكومات الغربية تلجأ إلى «قوننة القمع» وتغليفه بشعارات أنها لا تقبل ما تسميه «معاداة السامية» التي لم تعد تقنع أحداً.
الملاحم البطولية التي تسطّرها المقاومة في فلسطين، ولا سيما الانتصار الساحق الذي زلزل الكيان، يوم السابع من أكتوبر، أشاعت نشوة انتصار وثقة، فانتقل الشارع العربي من شارع حالم بالنصر إلى شارع منتصر ويمارس فعل الانتصار في حياته اليومية كفعل يومي، بعد أن كان يحلم به ويشعره بعيد المنال. ونرى كيف انتفض الجمهور في الشوارع والساحات من المغرب إلى اليمن، ليس فقط ليندّد بمجازر الصهاينة، بل ليؤكد على خياره الحقيقي وهو الانتصار والمقاومة، ويندّد بموقف الحكومات العربية الخانعة.
من الواضح أن هناك قراراً واضحاً وصريحاً بل ومعلناً من محور المقاومة عنوانه «مقاومة غزة ستنتصر»؛ من هنا نفهم العمليات اليومية التي يقوم بها مجاهدو حزب الله على حدود فلسطين الشمالية. هذه العمليات التي تشغل ثلاث فرق عسكرية من الجيش الصهيوني وتجعل الكيان يعيش حالة خوف ورعب دائمة من تدخل الحزب على نطاق واسع، لأن الجميع يعلم أن للحزب قدرة تدميرية هائلة ستلحق ببنية الكيان دماراً لا يمكن تحمّله وهذا يجعل قرار اتخاذ خطوة الحرب، حتى بالنسبة إلى الحزب، قراراً صعباً، لن يلجأ إليه إلا إذا شعر بأن المقاومة في غزة تتعرّض لخطر حقيقي.
كل ما تقدّم يبيّن أن معركة «طوفان الأقصى» تشكّل حجراً أساساً حقيقياً في إنهاء وجود هذا الكيان، وأن المستقبل ترسمه فقط السواعد المقاتلة لا الأقلام المرتجفة التي توقّع معاهدات استسلام، وواهمٌ من يعتقد أن العدوان الصهيوني على قطاع غزة يتعلّق بالصراع الفلسطيني الصهيوني فقط، فاستنفار القوى الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة والدول المركزية في أوروبا يقول لنا إن الصراع انتقل من حدود غزة إلى كل فلسطين وكل المنطقة بل وإلى أبعد نقطة في العالم.

* كاتب عربي من فلسطين