من المقرّر أن يصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى تركيا اليوم، في زيارةٍ لم تُحسم نهائياً، ويحيطها الغموض، نظراً إلى ما يُقال إنها «مشكلات لوجستية» يَجري العمل على تذليلها. وللزيارة المحتملة هذه، دلالاتها، فهي تأتي أولاً بعد مرور شهر على بدء العدوان على غزة، لم يزُر أثناءه أيٌّ من المسؤولين الأميركيين، أنقرة، وذلك رغم أنهم جالوا على عدد من العواصم الإقليمية، من تل أبيب إلى عمّان والدوحة والرياض والقاهرة. وبالتالي، ربّما يكون الدافع الأوّل وراء الخطوة، ترميم ما انكسر في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، على خلفية عملية «طوفان الأقصى»، وما تلاها من عدوان همجي إسرائيلي على غزة، بدعم كامل من الولايات المتحدة والغرب. وإذ شاء الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، منذ اللحظة الأولى للعملية، ألّا تعرّض التطوّرات الجارية في غزة، العلاقات التركية - الأميركية - التي بدأت تتحسّن للتوّ - لأيّ صدع، فهو اتّخذ لهذا الغرض موقفاً «حياديّاً» بين إسرائيل وحركة «حماس»، داعياً مَن سمّاهم «الأطراف» إلى «الاعتدال»، والابتعاد عن الخطوات التي يمكن أن تُفاقم الحرب، فيما لم يرتفع الصوت التركي مديناً الهمجية الإسرائيلية، إلّا بعد مرور حوالى 20 يوماً، حين اعتبر إردوغان إسرائيلَ «مجرمة حرب»، متوعّداً بملاحقتها أمام «المحكمة الجنائية الدولية». ومع أنه لا يمكن الاعتداد بالموقف المذكور، خصوصاً أنه لا يعكس توقّعات الشوارع التركية والعربية والإسلامية، فإن واشنطن لم تكن لتُعير التصعيد التركي اعتباراً لولا الهجوم القوي لإردوغان على الولايات المتحدة، وسؤاله إيّاها عمّا تفعله حاملة طائراتها، «جيرالد فورد»، في شرق المتوسط، قبالة السواحل الفلسطينية.وتتّصل رحلة بلينكن الشرق أوسطية، وتجواله على عواصم المنطقة الرئيسية، بالعمل، كما يقول، على منع اتّساع الحرب، وإبقاء قطاع غزة بمقاومته وناسه فريسة التوحّش الإسرائيلي ليسهل ابتلاعه. ومع أن تركيا انسجمت مع باقي أعضاء «حلف شمال الأطلسي» لجهة التنديد بعملية «طوفان الأقصى»، واعتبار «حماس» حركة إرهابية، في اجتماع وزراء دفاع الحلف في بروكسل في 12 تشرين الأول الماضي، إلّا أن واشنطن قد تكون معنيّة بعدم تعريض وحدة «الناتو» للاهتزاز، بسبب مواقف تركية مستجدّة على خلفية العدوان على غزة، ليكون محور الزيارة منع الأتراك من المضيّ في خطوات تصعيدية - تبقى نظرية - أخرى. لذلك، يُرجّح أن تتمّ الزيارة بالفعل، ولا سيما بعد الاتفاق عليها في الاتصال الهاتفي بين وزير الخارجية التركي حاقان فيدان، وبلينكن، يوم الثلاثاء الماضي.
جدّد الرئيس التركي دعوته إلى وقف النار، واستعداد بلاده لتكون من الضامنين لوقف النار والحلّ النهائي


كما أن ثمّة سبباً آخر يدفع وزير الخارجية الأميركي إلى هذه الخطوة، وهو الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قبل أيام، إلى تركيا، إذ إنه من عادة الأميركيين أن يقوموا بالتفاف على أيّ محاولات إيرانية للتقارب مع دول مِثل تركيا يريدها الغرب إلى جانبه. وما يزيد من الخشية الأميركية، أن فيدان أعلن أن الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، سيزور أنقرة قريباً. ولذا، تخشى الولايات المتحدة من أيّ تجاوب تركي مع إيران في شأن التضييق على حركة الطيران الأميركي في تركيا، ولا سيما أن عدداً من القاذفات الأميركية المتطوّرة حطّت رحالها في قاعدتَي «إينجيرليك» و«ملاطيا»، وربّما شاركت في عمليات قصف غزة بطريقة أو بأخرى. ولفت النظرَ، في هذا الإطار، ما ذكره الجنرال البحري المتقاعد والذائع الصيت، جهاد يايجي، في حوار تلفزيوني، من أن «جزءاً من مهمّة بلينكن في أنقرة، هو أن تأخذ تركيا جزءاً من فلسطينيي غزة». ويرى يايجي أن «مجيء بلينكن إلى تركيا ليس علامة خير»، إذ إن أحد جوانب الزيارة، المتأخّرة في رأيه، هو أن «تساعد تركيا، كما مصر والسعودية، في أن تأخذ قسماً من الفلسطينيين إليها»، مضيفاً أن «وجود 8-10 ملايين لاجئ أجنبي في تركيا، لن يضيره إذا أُضيف إليهم نصف مليون لاجئ فلسطيني. وهذه هي خطّة الحركة الصهيونية»، داعياً الفلسطينيين إلى ألّا يتركوا وطنهم ويسلّموه للأعداء.
وفي «يني شفق»، يكتب محمد بستان أن «إسرائيل لا تزال تصرّ على خطّة تهجير الفلسطينيين من غزة»، وأنها «كلّفت بلينكن ليقنع مصر وتركيا وقطر بذلك». وينقل الكاتب عن مصادر تركية، قولها إن «مثل هذا الطلب لم يأتِ من الولايات المتحدة. وبلينكن الذي يصل الأحد إلى تركيا، لا يُتوقّع أن يثير مثل هذا الموضوع، لأن الجواب التركي على هذه المسألة معروف وواضح، وهو الرفض المطلق». ويضيف بستان أنه في هذه الحالة، فإن الوزير الأميركي سيبحث في تركيا «إخراج حماس كلّياً من غزة، ووضْع القطاع تحت إشراف دول عربية بدعم من الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا. وفي حال لم يمرّ هذا الخيار، فتشكيل قوّة دولية للإشراف على غزة أو وضعها تحت إشراف الأمم المتحدة». ويرى الكاتب أنه «في حال التوافق على قرار بتشكيل قوة دولية للإشراف على غزة، فسيكون لتركيا فيها دور مهمّ، إذ إن الأخيرة هي التي اقترحت مثل ذلك منذ اللحظة الأولى. وتهدف من ورائه إلى أن تتبعه إقامة الدولة الفلسطينية، وإيجاد حلّ جذري للمشكلة الفلسطينية»، مشدّداً على أن «أيّ حلّ لا يأخذ في الحسبان سوى أمن إسرائيل، لا يمكن أن يكون بنّاءً».
في غضون ذلك، وصفَ وزير الخارجية التركي، أثناء اجتماع في برلين على مستوى وزراء الخارجية حول توسيع الاتحاد الأوروبي، اعتبار الاعتداءات على القرآن الكريم «حرّية تعبير»، ومنع الاحتجاجات في أوروبا على المجازر الوحشية على المدنيين في غزة بأنه «ازدواجية معايير»، متسائلاً: «كيف يمكن، إذا لم نوقف قتل إسرائيل للمدنيين في غزة، أن نحمي المدنيين في أوكرانيا؟»، متهماً أوروبا بأنها لم تعرض موقفاً حاسماً ومؤثّراً في القضايا العالمية. ومن جهته، جدّد الرئيس التركي، في كلمة في مؤتمر القمّة العاشر لزعماء الدول الناطقة بالتركية والذي انعقد في أستانة عاصمة كازاخستان، دعوته إلى وقف النار، واستعداد بلاده لتكون من الضامنين لوقف النار والحلّ النهائي، كما هي الآن في قبرص، وكما عملت على الوساطة بين روسيا وأوكرانيا.