غزة | في «مستشفى الشفاء» في غزة، يواصل عشرات الصحافيين تقديم رسالتهم الإعلامية بما تسمح به الإمكانيات، وسط ظروف لوجستية بالغة الصعوبة. يتكدّس الصحافيّون حول مصادر الطاقة لشحن بطاريات كاميراتهم وهواتفهم الخليوية. من يحظى بهذا الامتياز بشق الأنفس، يذهب إلى أقرب نقطة يستطيع منها التقاط اشارة الانترنت، لإرسال مواده إلى الوسيلة الإعلامية التي يعمل لصالحها. في «الشفاء» التي أضحت مأوى لأكثر من 40 ألف نازح، ليست ظروف العمل مثالية في المطلق: انعدمت خصوصية العمل، وتكدّس الأهالي داخل الخيام التي أضحت غرف الكونترول لعمل الفضائيات، فيما لا يستطيع الصحافيون توجيه أي عتب لأي من المواطنين، في حال تسبّبت حركتهم العشوائية في قطع كابلات الاتصال والكهرباء: «الوضع اليوم استثنائي جداً، معظم الأهالي هم ذوو شهداء ومصابون وأصحاب منازل مدمرة، تقطعت بهم السبل تماماً» يقول الصحافي ماهر العفيفي، مضيفاً لـ «الأخبار»: «المشكلة ليست فقط في ظروف العمل بالغة التعقيد، إذ لا مكان للنوم ولا لقضاء الحاجة. كما أننا نتقاسم مع الناس فتات الطعام وما توفر من كهرباء وماء». منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، استشهد 46 شخصاً من الأسرة الصحافية. بعضهم قضى تحت أسقف منازلهم حين عاد إليها بعد أيام طويلة من الغياب، وآخرون استهدفوا بشكل مباشر خلال عملهم في الميدان، حتى وصل الأمر إلى خلع الصحافي في تلفزيون «فلسطين»، سلمان البشير خوذته وسترته مباشرةً على الهواء، قائلاً «لا حماية، لا حماية دولية إطلاقاً، لا حصانة من أي شيء، هذه الدروع لا تحمينا ولا تلك القبعات. هذه مجرد شعارات نرتديها، ولا تحمي أي صحافي على الإطلاق. معدات الحماية هذه لا تحمينا». جاءت هذه الحركة بعد استشهاد زميله محمد أبو حطب، مع أحد عشر فرداً من أفراد عائلته على إثر قصف إسرائيلي استهدف منزله في خان يونس. وفي وقت متأخّر أوّل من أمس السبت، خسر المصوّر المتعاون مع وكالة «الأناضول»، محمد العالول، أربعة من أطفاله جراء قصف إسرائيلي استهدف عدداً من المنازل في مخيم المغازي للاجئين وسط قطاع غزة. تسبب القصف بتدمير منزل العالول بالكامل ما أدى أيضاً إلى وإصابة طفله الخامس وزوجته بجروح خطيرة أُدخلت على إثرها غرفة العناية المكثفة. كما استُشهد ثلاثة من أشقائه وأصيب والده ووالدته بجروح متوسطة.«هامش المخاطرة عالٍ جداً، يعلم كل من يتحرك أنه عرضة للاستهداف، لكن خطر الاستشهاد أو الإصابة ليس العائق الوحيد للتغطية الميدانية» يقول مدير مكتب قناة «الكوفية» في غزة أحمد حرب لنا، متابعاً: «لدينا أزمة وقود خانقة جداً. نفد البنزين تماماً من البلاد، وتوقفت معظم سيارات الزملاء، نشتري الوقود للسيارة التي نتنقل فيها من السوق السوداء، بعشرين ضعف ثمن اللتر في الوضع الطبيعي، ومستعدون لدفع 100 ضعف الثمن إن توفر، انعكس ذلك على قدرة المراسلين على التحرك لتغطية المجازر ونقل الحدث مصوراً من أرضه». أكثر من 15 إذاعة محلية كانت المصدر الرئيس للسكان لمتابعة الأحداث، خرجت تماماً عن الخدمة، بسبب قصف مقراتها أو نفاد الوقود المخصص لتشغيل أجهزة البث المباشر. إذاعة «الأقصى» التابعة لحركة «حماس» هي الوحيدة التي تعمل حالياً في القطاع، غير أنّها هي الأخرى ليست في وضع ممتاز، إذ تتعرض طوال الوقت للتشويش من جيش الاحتلال الذي يبثّ عبرها رسائل التهديد للأهالي بالنزوح والتهجير. كما أن هامش تحرك مراسليها المحدود جداً على الأرض، يسهم في محدودية النقل التفصيلي للخبر.
تحوّل تطبيق «تليغرام» إلى المصدر الأول لمتابعة الحدث


يوم الأربعاء الماضي، قصف جيش الاحتلال الطابق الـ 16 من «برج الغفري»، المحاذي لميناء غزة غرب المدينة. على سطح هذا البرج، كان يبثّ عدد كبير من القنوات الفضائية، مما أدى إلى تضرّر مقر «المجموعة الفلسطينية للإعلام BMG». بحسب مدير المجموعة حسن المدهون، فإنّ الإحتلال لم يعط أي تنبيه للطواقم الصحافية، إنما بادر بالقصف خلال عمل الصحافيين. يقول لنا: «مقر الشركة هو نقطة الالتقاء وتوزيع المهام للزملاء، وفيه استوديوات البث المباشر. خرجت شركتنا عن الخدمة تماماً بسبب تحطم المعدات وغرف التحكم (..) السلوك الإسرائيلي تجاه الطواقم الصحافية، لا يعرف خطوطاً حمراً». ويوم الخميس الماضي، دمرت الطائرات الحربية «عمارة حجي»، التي تضمّ عشرات المكاتب الصحافية من بينها «الوكالة الفرنسية» وشركة «عين ميديا» وقناة «الشرق». وعلى رغم الخسارات اللوجستية الباهظة جداً، فإنّ عشرات الصحافيين أضحوا بلا مقرّ عمل، فالتحقوا بزملائهم في عراء «مستشفى الشفاء».
على أن الوضع في مدينة غزة، يبقى أحسن حالاً مما هي عليه الحال في شمالها، حيث تركزت المجازر الكبرى. إذ ينعدم هناك أي هامش للحركة في أوقات المساء. وبرغم مطابقة الأوضاع اللوجستية لما هي عليه الحال في «مستشفى الشفاء»، فإن الأصعب في «مستسفى الإندونيسي» الذي يتمركز فيه الصحافيون، هو تعمّد الطائرات الحربية تنفيذ أحزمة نارية في محيط المستشفى بشكل يومي. يقول الصحافي إبراهيم نبيل: «يبدأ القصف مع غروب الشمس مستهدفاً بوّابة المستشفى وحتى طوابقها العلوية أحياناً، والأبنية محيطة بها، ولا يتوقف إلا في ساعات الصباح. نتحول في تلك الساعات العصيبة من صحافيين إلى نازحين، نعايش ما يعايشه أكثر من 10 آلاف نازح بكل التفاصيل».
إزاء ما سبق كله، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما تطبيق «تليغرام» إلى المصدر الأول لمتابعة الحدث، بل إطلاق مناشدات الاستغاثة والاستعلام عن مناطق القصف والمفقودين. وفيما تضج القنوات بعشرات الآلاف من المتابعين، يعاني النشطاء والصحافيون من عقبات في مواصلة التغطية، إذ تنقطع شبكات الانترنت عن مناطق واسعة من القطاع. وفي حال توافر الانترنت، يبقى الحصول على كهرباء لشحن الهواتف أزمةً لا حل لها. يقول مدير قناة «هنا الحقيقة» خالد أبو البراء التي يتابعها أكثر من 100 ألفاً، أنّ عدد من مشرفي القناة فقدوا الانترنت منذ الأيام الأولى للحرب، فيما استشهد آخرون أو فقدوا منازلهم. يتابع حديثه لـ «الأخبار»: «نعمل قدر المستطاع، نغيب عندما ينقطع الانترنت، ونعود عندما يتصل. لدينا أزمة اتصالات، ونعاني من سوء شبكات الاتصال بما لا يسمح لنا بالتواصل مع مصادرنا لتقصي مناطق الاستهداف».
وسط كل ذلك، يواظب المئات من الصحافيين على تقديم رسالتهم الإعلامية، متجاوزين الظروف القاسية، حيث ما زالت مشاهد القصف والمجازر تجد طريقها إلى مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية. الصحافي محمد سلامة، الذي يتنقل إلى مواقع الاستهداف عبر دراجة هوائية، أضحى أخيراً صوت مخيم جباليا وصورته الحية. يقول في حديثه لـ «الأخبار»: «لن أغادر الشمال، سأواصل نقل الصورة حتى النفس الأخير. الناس لديهم هاجس واحد، هو أن يقتلوا في الظلام، من دون أن يعرف عنهم أحد، أو يذكر قصصهم وسيرتهم. سأعيش معهم، وأموت بينهم، هذا قرار».



بلستيا وبيسان والآخرون... أهداف إسرائيلية


«هل هؤلاء صحافيون مستقلون أم أنّهم مرتبطون بحماس؟»، سؤال طرحته «جيروزاليم بوست» في مقال نشرته في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي بعنوان «مفضوح: فريق حماس الدعائي». وأشارت الصحيفة الإسرائيلية إلى 15 شخصاً يحظون بأكثر من 100 مليون متابع على مواقع التواصل الاجتماعي، و«يشنون حملة بروباغندا ضد إسرائيل على السوشال ميديا» منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر). وأكّدت الصحيفة للقرّاء أنّه على الرغم «من أنّ هؤلاء الأفراد يتحدّثون بشكل مستقلّ، إلّا أنّهم يعملون فعلياً بمثابة الناطق بلسان المنظمة الإرهابية (حماس)». وتابعت: «يظهرون بشكل متكرر في المقابلات ويتم اقتباسهم في وسائل الإعلام المهيمنة، مما يتسبب في انتشار أكاذيبهم». هكذا، أخذت «جيروزاليم بوست» تحرّض عليهم، و«كشف هوياتهم تباعاً»، واضعة إيّاهم في قلب بنك الأهداف الصهيونية. وضمن القائمة نذكر: بلستيا العقّاد (الصورة)، وبيسان عودة، وهند خضري، وأحمد حجازي، وعبد الله العطار، ومعتزّ عزايزة، وغيرهم.