بالتزامن مع تعزيز انتشارها العسكري في المنطقة عبر إرسال غواصة نووية من فئة «يو إس إس أوهايو»، لتنضمّ إلى حاملتَي الطائرات «دوايت دي آيزنهاور»، و»جيرالد فورد»، تحاول واشنطن، منذ أيام، تنشيط «جبهتها الدبلوماسية» لمهامّ مختلفة، موفدةً لهذا الغرض كبار مسؤوليها السياسيين والأمنيين إلى إسرائيل. وبعد جولة إقليمية لوزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، قادته إلى الأراضي المحتلّة، ومحطّات أخرى غير معلَنة كبغداد، ورام الله، للوقوف على آخر تطوّرات الوضع في القطاع، والشرق الأوسط عموماً، جاءت زيارة مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، وليام بيرنز، للقاء قادة ومسؤولين استخباراتيين عرب، وإسرائيليين. في الشكل تتشابه الزيارتان، باعتبارهما نوعاً من التأكيد على عدم تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة، وتحديداً إزاء ما يجري في فلسطين المحتلّة، وكذلك في المضمون، مع فارق أن بيرنز ليس محسوباً على معسكر «الصقور» الداعمين لإسرائيل في إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، لا بل إنه يعارض منْح حكومة بنيامين نتنياهو «شيكاً على بياض» في تنفيذ عمليتها العسكرية في غزة، والتي تبدو من منظور مسؤولين أميركيين، ومنهم بيرنز، بلا أفق سياسي أو ميداني.
بيرنز في المنطقة: «الموفد المتخصّص في حلّ مشكلات البيت الأبيض»
جاء بلينكن إلى المنطقة متأبّطاً لغة «دبلوماسية» لم تفلح في إقناع المسؤولين الإسرائيليين، بالقبول بـ»هدنة إنسانية» أو «التخفيف» من حدّة الهمجية، وذلك في زيارات ثلاث، بدا الوزير الأميركي في آخرها معنيّاً أكثر بطمأنة إسرائيل، وترهيب شركاء بلاده الإقليميين، وفق ما رشح عن لقاءاته مع رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في إطار «تشجيعه» الأخير على أداء دور سياسي وأمني في فترة ما بعد الحرب على غزة، ورئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، لناحية تحذيره من التسامح مع نشاطات فصائل المقاومة المسلّحة ضدّ القواعد الأميركي.
أمّا بيرنز، القادم من واشنطن التي تواجه «تمرّداً خفيّاً» تتكشّف فصوله تباعاً بعد ما أُشيع عن توجيه أكثر من 300 من موظّفي «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID) رسالةَ احتجاج إلى البيت الأبيض تطالبه بالدعوة إلى «وقف إطلاق النار» في غزة، و»إخضاع إسرائيل لموجبات القانون الدولي، بما في ذلك إنهاء احتلالها غير المشروع للأراضي الفلسطينية»، فقد جاء، على ما يبدو، حاملاً رسائلَ مغايرة وشديدة اللهجة، وبصورة خاصة تجاه القادة الإسرائيليين، لناحية عرض مخاوف إدارته من الارتدادات السلبية لحملة القصف العشوائي الإسرائيلي على القطاع، على المصالح السياسية والإستراتيجية لواشنطن، بعد «تمادي» تل أبيب ضدّ الفلسطينيين، إلى حدّ التلويح «الصبياني» بالسلاح النووي.
«جدّية» تحذيرات بيرنز في هذا الخصوص، تجلّت، وفق مراقبين، في ما أُشيع، خلال الساعات الماضية، عن تبلور اتفاق ثلاثي مصري - إسرائيلي - أميركي لوقف إطلاق النار في جنوب غزة، وترتيبات جديدة لإعادة فتح معبر رفح، على رغم نفي كلّ من حكومة الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية علْمها بذلك. وفي السياق،
تؤكد صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ «زيارات المسؤولين الأميركيين، وفي طليعتهم الرئيس بايدن (إضافة إلى بلينكن وبيرنز)، قد أفلحت في التأثير على الإسرائيليين، الذين شعر الكثير منهم بالإحباط من تعامل نتنياهو مع الأزمة»، مع إقرارها بوجود «توتّرات بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم الأميركيين، ومحاولة الولايات المتحدة دفع إسرائيل إلى توجيه حملتها العسكرية (في غزة) بصورة أكبر، بهدف تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، وكذلك حمْلها على تفادي محاكاة الأخطاء نفسها التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول عام 2001»، ولا سيما في العراق. وتستعرض الصحيفة الأميركية السمات المميّزة في جولة مدير الـ»سي آي إيه»، باعتباره «أحد أكثر الأصوات موثوقية لدى إدارة بايدن في ما يتعلّق بقضايا الشرق الأوسط»، لافتة إلى أنّه بات «الموفد الدبلوماسي المتخصّص في حلّ المشكلات في البيت الأبيض» على امتداد الإقليم.
يُعتبر بيرنز «أحد أكثر الأصوات موثوقية لدى إدارة بايدن في ما يتعلّق بقضايا الشرق الأوسط»


تقاطعات بين زيارتَي بلينكن وبيرنز
بهذا المعنى، تبدو زيارة الثاني مكمّلة لزيارة الأول؛ إذ إنها تأتي للبناء على نتائج مباحثات بلينكن مع عدد من المسؤولين العرب والإسرائيليين، ولا سيما لناحية «تعزيز الدبلوماسية المكوكية» لوزير الخارجية الأميركي، وبصورة خاصّة للبحث في «مستقبل غزة» فور انقضاء أجل العملية العسكرية الإسرائيلية هناك، وحثّ الإسرائيليين على اتّباع «نهج أكثر دقّة» في استهداف مواقع «حماس» وقادتها، ودعوتهم إلى السماح بإقرار «هدنة إنسانية» من حين إلى آخر، من أجل دخول المساعدات إلى غزة، وبذل «المزيد من الجهود لتجنّب وقوع خسائر في صفوف المدنيين»، وفق ما أكّده البيت الأبيض مساء أمس.
وانطلاقاً ممّا كشفته عملية «طوفان الأقصى» من خلل في منظومة الاستخبارات الإسرائيلية، وتركيز نظيرتها الأميركية إلى حدّ كبير على ملاحقة نشاطات التنظيمات المتطرّفة كـ»القاعدة» و»داعش»، تشير المصادر نفسها إلى أنّ جدول أعمال مدير «وكالة الاستخبارات المركزية» الأميركي، يشمل عقد لقاءات مع عدد من قادة الاستخبارات لعدد من البلدان الحليفة لواشنطن في المنطقة، لمعاودة تأكيد التزام الولايات المتحدة بتطوير برامج التعاون الاستخباري مع حلفائها الإقليميين، بخاصّة الأردن، وذلك على خلفية الحساسيّة الأمنية والسياسية البالغة للمملكة حيال ما يجري في غزة، وفي ضوء العلاقات الوثيقة التي تربط الملك الأردني عبدالله الثاني، ببيرنز، الذي كان يشغل منصب سفير واشنطن في عمّان، لدى تولّي الملك الأردني العرش، علماً أن الأخير كان قد وجّه رسالةً إلى الجهات المعنية في واشنطن أشاد فيها بالمزايا الدبلوماسية لبيرنز. ويكشف مسؤولون أميركيون أنّ «لقاءات بيرنز في الدول العربية تبدو على ذات القدر من الأهمية للقاءات التي أجراها في إسرائيل»، في إشارة إلى هواجس أميركية من تداعيات استمرار حرب غزة على الاستقرار السياسي للدول الحليفة لها، وآفاق التعاون المشترك معها في القضايا الإقليمية كمواجهة إيران، ومستقبل ما يُسمّى «عملية السلام».
وفي هذا الصدد، تكشف صحيفة «واشنطن بوست»، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أن زيارتَي بلينكن وبيرنز، تتقاطعان عند رغبة واشنطن في إظهار «التزامها بردع الحكومات أو الجماعات المسلّحة الأخرى عن توسيع الصراع، ومواصلة احتوائه»، في ظلّ المناوشات المستمرة بين «حزب الله» وإسرائيل، والقصف المتواصل لمواقع أميركية في العراق وسوريا، مضيفة أن «احتدام القتال في غزة، وارتفاع عدد القتلى المدنيين هناك، يُبرزان حجم التحدّيات التي يواجهها المسؤولان الأميركيان، وسط مساعيهما للموازنة بين التزامات الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، من جهة، والغضب المتصاعد لبعض شركائها في المنطقة حيال الكارثة الإنسانية في غزة، من جهة ثانية»، وفي ظلّ تصاعُد الحديث عن بدء البحث في سيناريوات إدارة قطاع غزة ما بعد الحرب، نظراً إلى صعوبة تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية المعلَنة من جانب إسرائيل. وتلفت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى وجود بنود ووجهات غير معلَنة على جدول أعمال بيرنز، مضيفة أنّه يعتزم «إجراء مناقشات في شأن الوضع في غزة ومفاوضات الرهائن الجارية، فضلاً عن التشديد على أهمية منع الحرب مع حماس من الاتّساع إلى سياق إقليمي أوسع»، وذلك في موازاة اشتغال المسؤول الأميركي على «تعزيز تبادل المعلومات الاستخبارية» بين واشنطن وتل أبيب لدعم أهداف الأخيرة، سواء في ملفّ الأسرى لدى الفصائل الفلسطينية، أو في مجال مكافحة نشاطات حركات المقاومة.
عيّنة عن اختلاف النظرتَين الأميركية والإسرائيلية في شأن تلك السيناريوات، يوجزها فرانك لوفنشتاين، وهو المبعوث الخاص السابق للمفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية في وزارة الخارجية الأميركية، حين يشير إلى الإشكالات التي تعتري الأهداف المعلَنة من جانب حكومة بنيامين نتنياهو، كالقضاء على حركة «حماس»، والتأسيس لسلطة بديلة في غزة موالية لتل أبيب، مشدّداً على أنّه «لا يمكن تحقيق الهدف العسكري الإسرائيلي إلا من خلال تسوية أجزاء كبيرة من قطاع غزة بالأرض».