ما يسمّى «صراعاً» في فلسطين يتشكّل من عدة أبعاد غالباً لا تُفهم بالكامل نظراً إلى انغماسنا في النقد المناهض للإبادة التي تمارسها «دولة إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني. استعمار الشعب الذي تمارسه «دولة إسرائيل» منذ عام 1948 هو احتلال غير قانوني للأراضي عبر فرض النزوح القسري على شعب فلسطين الأصلي. هدف هذه الدولة عبر هذا النوع من الاستعمار المُمارس هو ليس استغلال اليد العاملة الفلسطينية، بل الاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم. هذا يعني أنه لا يهمّه إبقاء الفلسطينيين على قيد الحياة بما أن هدفه هو طردهم الجسدي من الأرض. هذه العمليّة هي عنيفة جداً، كما يمكن تصورها، بما أنه لا يوجد شعب مستعمَر يتخلى عن أراضيه وأرزاقه طوعاً. لكنّ هذا النوع من الاستعمار لم تبتكره «دولة إسرائيل»، بل يُعاد إنتاجه على طول الكوكب وعرضه منذ أكثر من خمسة قرون. غزو التاج المسيحي القشتالي للأندلس في شبه الجزيرة الإيبيرية عام 1492 قد يمثّل أوّل حالة حديثة لاستعمار شعب، واستخدمت أساليب الاستعمار نفسها التي مورست ضد سكان الأندلس اليهوديين والمسلمين والمسيحيين الموحَّدين (مثل التطهير العرقي والطرد والإكراه في الدين، والإبادة المعرفية، وغيرها)، في التّوسّع الكولونيالي الإمبريالي الأوروبي للمسيحيّة في الأميركيتين وأفريقيا وآسيا والداخل الأوروبي. هذه الحقبة التاريخية التي تبدأ بغزو الأندلس أواخر القرن الخامس عشر تُعرف بالحداثة وتمثّل أصل مشروع حضارة الموت المؤسسة للنظام الإمبريالي العالمي الحالي.

تقع مسؤولية الاستعمار الإبادي الممارس ضد الفلسطينيين بالدرجة الأولى على نخبة الدولة الإسرائيلية، ولكن تقف خلف هذه الدولة الإبادية بريطانيا العظمى، التي احتلت الأراضي الفلسطينية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الخلافة العثمانية عام 1918. حينها بدأت حملة استعمار إبادي للشعب الفلسطيني مهّدت الطريق لإنشاء دولة إسرائيل لاحقاً في عام 1948. وعد بلفور الشهير عام 1917، يقع في هذا السياق كونه أشار إلى دعم رسمي من الإمبراطورية البريطانية للمشروع الصهيوني لإنشاء «وطن قومي» للشعب اليهودي في الأراضي الفلسطينية. بعد سقوط الخلافة العثمانية، منحت «عصبة الأمم» بريطانيا العظمى عام 1922 انتداباً رسمياً على الأراضي الفلسطينية، محوّلةً بذلك «المجتمع الدولي» بأكمله إلى متواطئ في النزوح القسري للشعوب اليهودية الأوروبية نحو الأراضي الفلسطينية. لماذا؟ لأن أوروبا كانت تطفح بعنصرية عميقة ضد اليهود تبحث عن إزالة اليهود من أوروبا، والتي وصلت إلى أوجها في الحرب العالمية الثانية.
لكن ليس فقط «دولة إسرائيل» والإمبريالية البريطانية تقفان خلف الإبادة الفلسطينية، بل أيضاً إمبريالية الولايات المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. الأخيرة طرحت عبر القرار 181/II في عام 1947 إنشاء «دولتين» في الأراضي الفلسطينية، وهو مقترح حظيَ بقبول الصهيونيين بطبيعة الحال، بينما قوبل برفض كامل من الشعب الفلسطيني وباقي البلاد العربية. وبالتالي، في ما يخص الولايات المتحدة، فهي تموّل «دولة إسرائيل» وتسلّحها منذ اليوم الأول لإنشائها، ولذلك مسؤولية القوى الإمبريالية الغربية تجاه الإبادة الفلسطينية ضخمة. وفي هذا السياق «إسرائيل» ليست إلا «الكلب المسعور» للإمبريالية الغربية الذي يعمل كشرطيّ الغرب في العالم العربي.
لكن كل البشرية مدعوّة إلى تحمّل نسبتها من المسؤولية عن الإبادة التي تحدث في هذه اللحظة. كل واحد منّا يحاكَم روحانياً وأخلاقياً عبر مرآة «أرض الميعاد»، ما يلزمنا على اتخاذ موقف. رغم أننا لسنا المنفّذ المباشر لهذه الإبادة، عدم اكتراثنا لهذه الوحشية يجعلنا شركاء فيها. وسائل الإعلام (أو التضليل الواسع) فضحت أمام أعين العالم إبادة في بث حي ومباشر وبالألوان. لذلك كلّنا مدركون لما يحدث، كلنا واعون أنه تاريخياً قياديي «دولة إسرائيل» ينزعون صفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وصولاً إلى معاملتهم أسوأ من الحيوان.
تصرّ الولايات المتحدة على أن لـ«دولة إسرائيل» حق الدفاع عن نفسها، وبالتالي تمنحها دعماً إعلامياً وديبلوماسياً إستراتيجياً-عسكرياً. لكن حق الدفاع عن النفس ليس موجوداً في القانون الدولي بالنسبة إلى المستعمِرين ويحقّ حصراً للمستعمَرين. «دولة إسرائيل» قوة عسكرية استعمارية تملك قدرات نووية ولا تحتاج إلى أي مساعدة لفرض إرادة القوة على الشعب الفلسطيني و«حماس»، الذين يعتمدون على الحجر وصواريخ بدائية. وسط عدم التوازن هذا في القدرات المادية يصعب علينا تصنيف هذا الصراع كحرب، ونفضّل الحديث عنه على أنه إبادة أو تطهير عرقي. من المنظور الأخلاقي، لا يملك الفلسطينيون الحجة فقط، بل أيضاً دعم كل شعوب العالم وتضامنها، التي تعارض أذيّة «دولة إسرائيل» وعجرفتها ووحشيتها.
نخبة تعرّف عن نفسها على أنها يهوديّة وتمثّل كل يهود العالم، وهو ادّعاء كاذب بالمرّة، تلاحق وتقتل وتمارس الأذيّة والتعذيب والإبادة ضد الأطفال والنساء والمسنّين الفلسطينيين الذين يعانون ظروفاً بالغة الصعوبة. غزّة ليست سجناً مفتوحاً، بل معسكر الاعتقال الأكبر في العالم، يضم أكثر من مليوني إنسان عالقين في داخله. في السجون، على الأقلّ، يحصل المساجين على الطعام والمياه والكهرباء والرعاية الصحية ولا يتعرّضون للقصف الجوّي. في معسكرات الاعتقال، يقطع المستعمِر الخدمات ويقصف من دون تمييز بوحشية لامتناهية لأنه يسعى إلى إبادة المستعمَرين. في معسكر اعتقال غزة، المستعمِر الإسرائيلي يتحكّم في جوانب الحياة الأساسية للفلسطينيين كافة مثل الغذاء والمياه والكهرباء ووسائل التواصل والمنتجات الواردة والصادرة. لقد قصفوا مستشفيات ومدارس وجوامع ومكتبات ومساكن ومكاتب حكومية وأكثر من ذلك. وحشيّة «دولة إسرائيل» لافتة. ليس لديهم أي رحمة لأنّهم يسعون إلى إبادة الشعب الفلسطيني للاستيلاء على أراضيهم. التشابه بين السياسات النازية للتخلّص من اليهود والسياسات الصهيونية للتخلّص من الفلسطينيين كبيرٌ جدّاً. غزة هي غيتو وارسو القرن الحادي والعشرين.
وهكذا تضع «أرض الميعاد» مجدّداً البشرية كاملةً أمام مرآةٍ روحية وأخلاقية. في أي طرف نقف؟ في طرف مرتكبي الإبادة أو في طرف الضحية؟ حان وقت اتخاذ موقف، ولا يمكن لأحدٍ أن يعتبر أنه غير معنيّ، لأنّ حتّى من يدّعي الحياد فهو يتّخذ طرفاً بعدم التحرك ضد الإبادة.
تحاول الدول الغربية تقييد التظاهرات الداعمة لفلسطين. في دول مثل بريطانيا العظمى يحاولون منع رفع العلم الفلسطيني لإخفاء المعلومات المناهضة للإبادة الصهيونية والإمبرياليات الغربية. إضافة إلى ذلك، يتم تداول كميات هائلة من المعلومات الكاذبة ذات التأثير الكبير، ليس فقط عن الشعب الفلسطيني بل عن «حماس» أيضاً. فقد ثبت أن «حماس» لم تقطع رأس أي طفل، وأن المجزرة المزعومة ضد المدنيين الإسرائيليين كما وصفتها وسائل الإعلام الغربي ليست ما ادّعوه. نشرت إسرائيل قائمة بأسماء قتلى السابع من أكتوبر وكانت الغالبية الكبرى منها لعسكريين. ما يعني أن «حماس» لم تهاجم المدنيين، بل الجيش الإسرائيلي هو الذي تسبّب في معظم القتلى المدنيين. هذا وتوجد شهادات لمواطنين إسرائيليين يتهمون فيها الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار على مدنيين بدلاً من الانتظار ليبتعدوا عن المنطقة. وما هدف ذلك؟ هدفه اتهام «حماس» تجاه الرأي العام العالمي وتبرير الإبادة المتعمّدة. بكلام آخر، أطلقوا العنان لعملية تلاعب إعلامي بالرأي العام على مستوى العالم. لكن رغم ذلك، بانت الحقيقة كاملة، والذين يريدون معرفتها قادرون على الحصول عليها، والذين يرغبون في المعرفة، لن يفعلوا. البشرية تنقسم بين من يدعم بصورة فاعلة، أو عبر عدم اكتراثه، الإبادة في فلسطين، وبين من يقاتل ضدها.
الحداثة الرأسمالية الغربية كحضارة موت وضعت البشرية أمام مأزق: الحياة أو الإبادة. فلسطين هي نقطة الانعطاف. في فلسطين يتقرّر مستقبل البشرية


نقف اليوم في لحظة روحانية وخلاصية: إما أن ننتظم ونوقف هذا الظلم، وإما أن نمضي قدماً نحو تدمير الحياة على الأرض إلى أجل غير مسمّى. إنتاج الحياة وإعادة إنتاجها وتطويرها يجب أن تكون الأولوية القصوى للبشرية. علينا أن ندافع عن الحياة ونوقف من يعملون على تدميرها في القرون الخمسة الأخيرة، وإلّا تواجه الحياة على هذه الأرض خطر الانقراض الكامل. هذا هو التحدّي الذي نواجهه. حان وقت العمل. نكرّر: إمّا نعمل من أجل الحياة، وإما عكس ذلك نسهم في تدميرها. لا يوجد مجال للوسطية ولا للحياد، لأن من يعمل من فرضية الحياد يسمح للمهيمنين بالاستمرار في مشاريعهم الاستعمارية الإبادية. إذا استكملت إسرائيل هذه الإبادة من دون حساب، سوف يتسارع انطلاق الإبادات وتفتح الأبواب لإبادات جديدة، وترسّخ فكرة نخبة دافوس المالية لمحو جزء من البشرية كـ«حلّ» للأزمة الحضارية التي نواجهها.
في هذه اللحظة الروحانية التي نجد نفسنا فيها كبشريّة، علينا اتخاذ موقف أخلاقي وأن نقرّر في أي طرفٍ نقف، وإلى أي نحو نريد توجيه مستقبل البشرية. «أرض الميعاد» تدعو إلى العدالة وتحثّنا على أن نصبح بشراً أفضل. علينا تخطّي وضعية الفردانية الحديثة وأن نتحوّل إلى أناس أكثر رحمة وتضامناً ومجتمعيّة، وإلّا فنحن متوجهون إلى جهنم، بمعنى الدمار النهائي للحياة. الحداثة الرأسمالية الغربية كحضارة موت وضعت البشرية أمام مأزق: الحياة أو الإبادة. فلسطين هي نقطة الانعطاف. في فلسطين يتقرّر مستقبل البشرية بين الصراع التحرّري ضد الإمبريالية للشعوب الذي نادى به دوماً الأنبياء، وبين صراع الفراعنة والأباطرة والملوك للهيمنة على الشعوب. فلنُعطِ العدالة لفلسطين من أجل إنقاذ حياة البشرية.

* باحث وبروفيسور بورتوريكي في قسم الدراسات الإثنية في جامعة كاليفورنيا - بيركلي