خلال الأيام القليلة الماضية، توالت تصريحات صادرة عن الإدارة الأميركية، حملت مؤشرات إلى تغيير في نهجها حيال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وفي موازاة توارد الأنباء عن ضغوط يمارسها الجانب الأميركي على حكومة الاحتلال، للسَّيْر بـ»هدنة إنسانية» يتخلّلها وقفٌ للأعمال القتالية في القطاع لمدّة ثلاثة أيام، من أجل إفساح المجال للتقدّم في ملفّ المفاوضات في شأن الأسرى المحتجزين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، حمل البيان الختامي لاجتماع وزراء خارجية «مجموعة السبع»، في طوكيو، دلالات في هذا الاتجاه، على رغم إقرار وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، باستمرار الخلافات بين واشنطن وحلفائها العرب، حول الدعوة إلى وقف فوري شامل لإطلاق النار، بدعوى أن ذلك «يفسح المجال أمام حماس لمهاجمة إسرائيل»، من جهة، وبين واشنطن وتل أبيب حول الموقف من «الهدنة»، من جهة ثانية. وعلى رغم أن البعض يبني على التسريبات الصحافية المتعلّقة بتسيير الولايات المتحدة مُسيّرات فوق قطاع غزة، لمؤازرة إسرائيل في جهود البحث عن الأسرى، على أنها تعكس استمرار الانحياز الأميركي إلى مقاربة قيادة دولة الاحتلال التي لا تكفّ تردِّد إصرارها على بتّ هذا الملفّ، عسكريّاً، ينطلق آخرون ممّا يسمّونه «بعض التقدّم» الذي حقّقه بلينكن في جولته الشرق أوسطية الأخيرة في الملفّ المذكور لاستخلاص العكس، وهو ما تجلّى مع إعلان البيت الأبيض، مساء أمس، موافقة حكومة نتنياهو على «هدن إنسانية» في غزة، ستمتدّ لأربع ساعات يومياً في بعض المناطق، وتتيح إدخال المساعدات الإنسانية.
ماذا يدور في واشنطن؟
أيّاً يكن، فإن الضغوط على إدارة جو بايدن بسبب نهجها «المتساهل» حيال إسرائيل، لا تفتأ تتصاعد، توازياً مع تدنّي شعبية الرئيس الأميركي، خلال الشهر الجاري، إلى أدنى مستوياتها منذ شهر نيسان الماضي، لتلامس حدود الـ39%، وفق استطلاع للرأي أجرته وكالة «رويترز»، و»إيبسوس». وفضلاً عمّا يعتمل في أروقة دوائر وزارة الخارجية من اعتراضات على «سياسات بايدن الإسرائيلية»، تأخذ حيّزها بعيداً من الإعلام، جاء الاعتراض العلني على تلك السياسة عبر رسالة وجّهها أخيراً 26 من أعضاء مجلس الشيوخ، معظمهم من الحزب الديمقراطي، طالبوا فيها البيت الأبيض بتوضيح ما يتّخذه من إجراءات لضمان تجنّب إسرائيل استهداف المدنيين في غزة، والتدقيق في مصير حزمة مساعدات عسكرية جديدة يعتزم بايدن منحها للكيان. كما ضمّن الموقّعون، وفي طليعتهم رئيس «لجنة القوات المسلحة» في المجلس، الديمقراطي جاك ريد، وأحد أبرز القادة الديمقراطيين في المجلس، ريتشارد دوربين، خطابهم إلى مؤسّسة الرئاسة، استفسارات تتعلّق بما إذا كانت خطط إسرائيل لطرد «حماس» من قطاع غزة قابلة للتحقّق عسكرياً، وما إذا كانت تلك الخطط تأخذ مصير الأسرى في الاعتبار، ودعوة إلى التأكد من أن التصوّرات الإسرائيلية لفترة ما بعد الحرب في غزة قابلة للتطبيق.
وعليه، ثمّة مَن يترقّب الخطوة التالية للإعلان الأميركي، وما قد يتبعه تحديداً بالنسبة إلى ملفّ الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية، التي ما انفكّ قادتها يؤكدون صعوبة الإفراج عن عدد منهم في ظلّ استمرار حملة القصف الإسرائيلية. وبحسب موقع «المونيتور»، فإن «بصيص أمل» يلوح في شأن قرب نجاح جهود الوساطة القطرية في هذا الخصوص، على وقع تساؤلات في صفوف الجمهور الإسرائيلي في شأن ما إذا كانت الأهداف المزدوجة لحكومتهم، والمتمثّلة في القضاء على «حماس» وإنقاذ أسراها، بعضُها متوافق مع بعض. وينقل الموقع عن مسؤول أميركي تأكيده أنّ «الولايات المتحدة، إلى جانب كلّ من إسرائيل وقطر، تعكف منذ مدة على مناقشة وقف (مؤقت) لإطلاق النار لمدّة تصل إلى 72 ساعة متواصلة، في مقابل أن تعمد حماس، خلال تلك المدّة، إلى إطلاق سراح عدد قليل من الرهائن». ويضيف الموقع، نقلاً عن المصدر نفسه، أن الأطراف الثلاثة شرعت أخيراً في بحث واختبار السبل المتاحة لإنجاح المقترح المذكور، وكيفيّة جعله قابلاً للتنفيذ، مؤكداً حصولها، خلال الشهر الماضي، على «ضمانات» من جانب «الصليب الأحمر الدولي»، بصفته وسيطاً محايداً، يلتزم بموجبها بضمان سلامة اثنين من المواطنين الأميركيين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، ومرافقتهما، فور الاتفاق على إطلاق سراحهما من غزة، إلى داخل الأراضي المحتلّة. وكشف المسؤول الأميركي للموقع، أن المفاوضات جارية لمحاولة الاتفاق على «دفعة أكبر» من الأسرى الذين سوف يتطلّب الإفراج عنهم «وقفاً واسعاً وملحوظاً» للأعمال العدائية في غزة.

«العد العكسي بدأ»
في المقابل، تشدّد مصادر مشاركة في المحادثات غير المباشرة بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، برعاية قطرية، على أن «إطلاق سراح أيّ دفعة من الأسرى، بصرف النظر عن عددها، سيكون بمثابة عملية مصمَّمة ومدروسة بعناية، ولا سيما أنّ إسرائيل ستحتاج، من جانبها، إلى الحصول على ضمانات بأن حماس ستلتزم بتنفيذ موجباتها المندرجة ضمن الصفقة، ومن ضمنها تسليم قائمة بأسماء الأسرى لديها». وتلمّح المصادر نفسها إلى عوائق شائكة تعترض طريق الوساطة القطرية، متسائلة: «كيف يمكنك إيجاد الصيغة الصحيحة للصفقة، وكذلك التسلسل الزمني الذي يتيح وضع اللمسات الأخيرة على بنودها وشروطها ومن ثمّ تنفيذها، مع إعطاء إسرائيل، في الوقت نفسه، ضمانات بأن وقف إطلاق النار (المؤقت) لن ينقضي قبل عودة الرهائن؟».
وفي حين يهجس مسؤولون إسرائيليون بخصوص ما يزعمونه من وجود انقسامات محتملة بين الجناح السياسي لـ»حماس» وجناحها العسكري، قد تعيق تنفيذ أيّ اتفاق في شأن الأسرى، والمسائل الأخرى، تعتقد مصادر دبلوماسية غربية أن مبادرة الحركة إلى الإفراج عن أربعة أسرى لديها، خلال شهر تشرين الأول الماضي، كشفت ضعف المزاعم الإسرائيلية، وبرهنت على التوافق بين قيادات «حماس». وتتوقّف المصادر عينها، عند تساؤلات جوهرية تدور حول ما إذا كانت قيادة الحركة في غزة مستعدّة للتخلّي عن عدد كبير من الأسرى دفعة واحدة، من دون الإفراج عن أيّ أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية مقابل ذلك، كاشفة أنّ جهود الوساطة القطرية، تمحورت حتى الآن حول إتمام إطلاق سراح «الرهائن المدنيين»، على أنّ يتمّ بتّ مصير الجنود الإسرائيليين المحتجزين في غزة في نهاية المطاف، في إطار مسار منفصل للمفاوضات غير المباشرة التي ترعاها الدوحة.
وبالنظر إلى أن إسرائيل تحتجز نحو 7000 أسير فلسطيني في سجونها، من بينهم ما لا يقلّ عن 559 محكوماً بعقوبة السجن لمدى الحياة، يشير غيرشون باسكن، وهو «ناشط سياسي» إسرائيلي، إلى أنّه «قد بدأ العد التنازلي للتحقّق من وجود إمكانية للتوصّل إلى إطلاق سراح الأسرى عن طريق التفاوض، من عدمه». ويميل غيرشون، وهو مفاوض إسرائيلي سابق لعب دوراً مهمّاً في إبرام صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011 والتي أفضت إلى الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل الإفراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني، إلى القول إن مطالبة «حماس» بوقف إطلاق النار، كشرط مسبق للموافقة على إطلاق سراح عدد من المحتجزين لديها «يتطلّب من الإسرائيليين الانسحاب من المواقع التي يسيطرون عليها على الأرض» في غزة، مضيفاً أن ذلك أمر «بالغ الصعوبة، وعلى درجة عالية من التعقيد». ويدعو غيرشون حكومة بنيامين نتنياهو إلى أن تأخذ تعهدات رئيس حركة «حماس» في قطاع غزة، يحيى السنوار، بمواصلة السعي لتحرير الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية على محمل الجدّ، موضحاً أن الرجل، المفرج عنه في صفقة عام 2011، «يريد إنجاز هذه المهمّة، والتي كرّس من أجلها حياته، قبل أن يُقتَل». وفي محاولته شرح صيغة الاتفاق الذي تنشده الحركة في المفاوضات الجارية، يقول إنّه «ليس ثمّة اتفاق آخر تهتمّ لأمره حماس، سوى اتفاق تبادل وفق صيغة (الكلّ مقابل الكلّ)».