من بين مئات القرارات التي يتخّذها قادة الحرب الإسرائيليون يوميّاً، قلّة منها تُعدّ قرارات إستراتيجية، فيما يبدو أن المستويَين السياسي والعسكري، سيصلان بالفعل في غضون الأيام القليلة المقبلة إلى منعطفٍ حرج، عنوانه الاختيار بين صفقة الأسرى أو الاستمرار في العملية العسكرية حتى تدمير القدرات العسكرية لـ«حماس». وفي هذا الإطار، يشير المحلّل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشواع، إلى أن الحديث يدور عن «صفقة لإطلاق سراح نحو 80 امرأة وطفلاً من الأسرى لدى حماس، في مقابل إطلاق سراح أسيرات وأطفال فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، في موازاة وقفٍ لإطلاق النار يستمرّ عدة أيام»، وهو ما ينفيه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، مؤكداً أنه «لن يكون هناك وقف لإطلاق النار حتى عودة جميع المختطفين (وعددهم أعلى بثلاثة أضعاف من عدد المشمولين بالصفقة)». وتعليقاً على هذا النفي المتكرّر، يقول يهوشواع: «سنعود إلى التلاعب اللغوي: إذا نُفّذت الصفقة، لن يكون هناك «وقف إطلاق نار»، وإنّما «هدنة»».لكن الواقع يقول إن ثمّة «أسباباً وجيهة للتروّي، وفي مقدّمتها أن وقف إطلاق النار لعدّة أيام من شأنه أن يوقف على الأرجح الجهود الهجومية التي يبذلها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة بسبب الضغوط الدولية»، وفقاً للمحلّل نفسه. وفي مثل هذا الوضع، «لن تكون الإنجازات التي تراكمت إلى الآن كافية لتفي بالأهداف العالية التي أعلنها الجيش (وقادة الحرب) أمام الجمهور الإسرائيلي». ورغم أن «ثمّة إنجازات تحقّقت من طريق استهداف البنية العسكرية لحماس، ولا ينبغي الاستهانة بذلك أو التقليل من شأنه»، إلّا أن «هناك شكّاً في إنْ كان ما أُنجز حتى الآن سيُعيد الأمن إلى (مستوطني) النقب الغربي». فضلاً عمَّا تقدَّم، فإن وقف إطلاق النار «سيشكّل خطراً على سلامة جنود الجيش الإسرائيلي داخل القطاع، فهذه خلاصات وعِبَر كُتبت بدماء بعض الذين سقطوا في عملية «الجرف الصامد»، والتي تخلّلها 13 وقفاً لإطلاق النار». وبالنتيجة، فإن «المعضلة الماثلة أمام إسرائيل صعبة وقاسية»، طبقاً لِما وصفه مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، تقاطعت إشارته مع كلام مسؤول كبير في الجيش الإسرائيلي، قال بوضوح إنه «لا ينبغي لنا تخفيف الضغط الممارَس (ضدّ حماس)، فليس من الصواب قبول نصف صفقة، بل صفقة شاملة فقط، من شأنها أن تضع قوانين جديدة لا يصار بموجبها إلى تقديم أيّ تنازلات في شأن قضية الرهائن... إذا قبلنا الصفقة، فإن شرعية مواصلة العمل الهجومي ستتضرّر، في حين أنّ حماس ستحظى بورقة قوّة».
على المستوى الميداني، يشير يهوشواع إلى أن الاتّجاه الذي يركّز عليه الجيش، هو «السيطرة على مقرّات مركزية للحكُم السلطوي لحماس، بينها المربع الأمني، والمربع السلطوي، والميناء»، بالإضافة إلى مجمع «مستشفى الشفاء»، الذي يزعم المحلّل أن القوات الإسرائيلية تتفادى إيذاء «المرضى والأبرياء» فيه، فيما المعطيات تفيد بأن خُدّجاً ومرضى استشهدوا في اليومَين الماضيَين نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على المستشفى الذي بات تقريباً خارجاً عن الخدمة، وعدم سماحها للنازحين إليه بدفن جثامين شهدائهم المصفوفة في باحة المجمع، وترْكها لتنهشها الكلاب الشاردة في مشهد ربّما لم يسبق أن تكرّر منذ الحرب العالمية الثانية. وفي المقابل، لا يقلّل يهوشواع من شأن الخسائر التي تلحق بجنود الجيش الإسرائيلي وآلياته، مشيراً إلى أن «هذا كلّه يجري في موازاة تصاعُد التهديدات على الجبهة الشمالية، وخصوصاً في اليومَين الماضييَن، وهو ما يتطلّب عمليّاً ردّ فعل قوياً من الجيش الإسرائيلي، على لبنان، ولو أتى ذلك لحساب استهداف تل أبيب بالصواريخ». وبحسب يهوشواع، فإنه رغم التصريحات العالية السقف للقادة الإسرائيليين، وللناطق باسم الجيش، فإن الأصوات الوحيدة التي لا تزال تُسمع في الشمال هي أصوات القذائف والصواريخ من لبنان، فيما يبدو أن «الأحاديث العالية النبرة غير مقنعة - حتى الآن - (لسكان الشمال)».
وقف إطلاق النار، «سيشكّل خطراً على سلامة جنود الجيش الإسرائيلي داخل القطاع، فهذه خلاصات وعِبَر كُتبت بدماء بعض الذين سقطوا في عملية «الجرف الصامد»»


في سياق آخر، يتطرّق أستاذ العلوم السياسية في «جامعة تل أبيب»، البروفيسو أودي زومر، في صحيفة «معاريف»، إلى معضلة «لا تقلّ أهميّة»، تتمثّل في شخص نتنياهو. وإذ يتحدّث عن الدعم الغربي الذي تحظى به إسرائيل لاستكمال حربها، والذي تبدّى في الجسر الجوّي لقادة الدول الغربية التي حجّت إلى تل أبيب منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب، فهو يشير إلى أن «هذا الحج لم يكن تعبيراً عن الدعم فقط، ولا من أجل استطلاع خطط الجيش الإسرائيلي وتقديم الاستشارات اللازمة له، فجميع من حجّوا هم قادة دول ديموقراطية، رغبوا - إلى جانب إظهار دعمهم - في فحص ديموقراطية إسرائيل أيضاً، لأن هذا عمليّاً ما تتشاركه هذه الدول مع الأخيرة، وهو ما يجعل من تل أبيب أحد أركان المحور الديموقراطي». ويضيف: «مصير دولة إسرائيل مرهون بقدرتها على الاستمرار في البقاء منتمية إلى هذا المحور». ويوضح زومر أن المعيار الأكثر أهميّة للطبيعة الديموقراطية لنظام الحكم هو «مبدأ المساءلة»، القائم على فكرة «وجوب استبدال الزعيم الفاشل بانتقال سلمي للسلطة. وبالنظر إلى الأبعاد التاريخية لفشل 7 أكتوبر، فإن التوقّعات تتلخّص في استبدال فوري (لنتنياهو)، وهي توقعات تتشارك فيها أيضاً بشكل عفوي جميع ألوان الطيف السياسي في إسرائيل تقريباً». ويرى أنه «بمعزل عن الموقف السياسي، فإن القائد الذي حدث في عهده إخفاق بهذا الحجم يجب أن يخلي منصبه، فوراً. ولكن حتى لو كان هناك مَن يناقش في إسرائيل ما إذا كان هذا هو الوقت المناسب للمساءلة، فإن التسريب في موقع «بوليتيكو» يُظهر أن هذا التردّد هو امتياز لا يمكننا منحه لأنفسنا».
ويقرّ زومر بأن الظروف السياسية والدولية «تضع إسرائيل على مفترق طرق معقّد جداً»، إذ «يُعدّ استبدال رئيس الحكومة الحالي، أحد أكثر الأحداث إثارة للجدل في أيّ نظام سياسي، خصوصاً مع آلاف الضحايا ومئات الرهائن، وانكشاف نقاط ضعف المجتمع الإسرائيلي»، مضيفاً أن «مثل هذه الخطوة (استبدال نتنياهو) في خضمّ حملة عسكرية يُعدّ أمراً خطيراً بحقّ، عندما يقاتل جنودنا في عمق أراضي العدو ويخاطرون بحياتهم، فإن أمر الساعة هو الاستقرار: الاستقرار الحكومي، الاستقرار النفسي، والاستقرار الوطني». لكنه يرى أنه «من المؤسف أن هذا الاستقرار ليس خياراً وارداً في هذه المرحلة التاريخية التي نقف عندها. فالخطر الذي يتهدَّد أمن إسرائيل إذا لم تُظهر الديموقراطية الإسرائيلية علامات الحياة الحيوية، لا يقلّ خطورة عن الشروع في تحرّك سريع وهادف لاستبدال نتنياهو».
وبناءً على ما سبق، يعتقد زومر أن على «القيادة الإسرائيلية بمختلف أطيافها السياسية أن ترتقي إلى مستوى التحدّي الوطني، وتحقّق الهدف. فاستبدال نتنياهو (...) هو الخطوة الأولى والمطلوبة على طريق تحقيق الانتصار»، لافتاً إلى أن انتخابات مبكرة أمرٌ «غير وارد» لأسباب مختلفة، «بدءاً بالديناميّات السياسية التي ستخلقها، وانتهاءً بتكاليفها التي لا يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي تحمُّلها اليوم». ثمّ إن «تشكيل لجنة تحقيق رسمية أمر غير وارد لأن العوامل الزمنية لمثل هذه اللجنة، والتي ربّما كانت مناسبة لعام 1973، لا تمتّ بصلة إلى واقع عام 2023». ومع ذلك، فإن «إحدى آليات الديموقراطية الإسرائيلية يمكن أن تكون ذات أهميّة حاسمة، وهي تشكيل لجنة تحقيق بنّاءة، والتصويت بحجب الثقة»، علماً أنه في حالة حجب الثقة «يتمّ استبدال حكومة بأخرى من دون حلّ الكنيست ومن دون الذهاب إلى الانتخابات. ويظلّ هيكل الكنيست على حاله. ويمكن الحزب الحاكم أن يبقى أيضاً. وفقط تُستبدل قيادته».
وفي هذا الإطار، يدعو زومر القيادة الإسرائيلية الموجودة في مركز الخريطة السياسية، والتي تضمّ منذ تشكُّل حكومة الطوارئ، 75% على الأقلّ من «مواطني إسرائيل»، إلى التحرّك، مشيراً إلى أنه يتوجّب عليها أن «تجد عضواً من الليكود يوافق على الحصول على دعم أحزاب المعارضة ليحلّ محلّ نتنياهو كرئيس للحكومة... يمكن أن يكون ديختر أو بركات أو غالانت، المهمّ أن تنتج العملية السياسية تحالفاً يتمكّن فيه أعضاء الائتلاف الذين يرغبون في تجاوز أنفسهم في اللحظة التاريخية التي نعيشها، من الانضمام إلى أعضاء المعارضة ودعم رئيس الوزراء الجديد من الليكود». ويعتبر أن قادة الأحزاب «الحريدية» ينبغي أن يكونوا شركاء في ذلك، ويصوّتوا لمصلحة حجب الثقة، بطريقة لا تؤدّي إلى زعزعة الاستقرار الحكومي، إذ، وفقاً له، «في دولة من دول العالم الأول، كان الزعيم سيتخلّى عن مكانته نتيجة ظرف مماثل لهجوم 7 أكتوبر. في أيّ بلد من بلدان العالم الثالث، ستدلّه الغوغاء على طريقه للخروج. في إسرائيل، ثمة مزيج بين هذا وذاك، ولكن حتى الآن لا يخلي نتنياهو منصبه، في حين أن الاعتبارات الداخلية والخارجية تتطلّب استبداله حالاً». ويختم بالقول إنه «من حسن حظّنا أن الآليات الديموقراطية تسمح باستبدال نتيناهو في خضم المعركة الجارية، بأقلّ قدْر ممكن من الصدمة للنظام السياسي»، وإن «حكمة قادة الحزب (الليكود)، جعلت هذه التحرّكات المعقدة ممكنة في الماضي غير البعيد، واليوم أيضاً لا بدّ من أن يقودهم شعورهم بالمسؤولية الوطنية إلى التحرّك»، لأن «دولة إسرائيل ومستقبل المشروع الصهيوني يعتمدان على ذلك».