كان الليل، كان الشتاء عاصفاً في الخارج، وكنت أنا والصحو نلتقي وجهاً لوجه، والنوم يجلس القرفصاء أمامنا، وينادينا. كان الليل وكنت ممنوعاً من النوم.إنه اليوم الرابع في الاعتقال، لم أجتمع بأحد بعد، سوى السجان والضابط الذي أمره بتعليقي في الهواء، وبأمر آخر، أن لا يتركني أنام.
في تلك الليلة، وقبلها بضع ليال، بقيت واقفاً أنا والعمود المربوط عليه بين الأرض وسقف الزنزانة. كنت أحاول تخيّل شكلي، إلام أتحوّل مع مرور الأيام؟ لم أكن أرى سوى صورة واحدة لي، كنت أراني أجلس في صدر الزنزانة بهدوء، أنظر نحو بوابتها، أكاد أثقبها، وفي رأسي فكرة عن حرية ليست موجودة، فأنا محتجز، ومربوط، ومعلّق بين الأرض والسقف.
كنت واقعياً كفايةً لأنظر إلى نفسي كأسير ليس حراً، لكني كنت أفكر بأن تلك القصائد الجميلة عن الحرية، جيّد لو أعدت قراءتها مرة تلو مرة، فمن كثرة ما قرأتها وسمعتها في الخارج، أصبحت مكتوبة في عقلي من دون أن أدري. كنت أتسلّى بترديد بعضها بصمت، فأبتسم، فأرسم صورة الشاعر وهو يلقي القصيدة بصوته في داخل عقلي، يلقيها، وأنا وحدي الجمهور، افتتحت في رأسي مسرحاً للشاعر، ينشد لي ما تيسّر، وكلما أنهى قصيدة، صفقت، إلى أن انتهى وأعلن أو أعلنت نهاية هذه الوقفة الشعرية من أجل الحرية، فأتركه ليستمع إلى صمتي، ونخرج معاً، نمشي قليلاً قرب الزنزانة، ومن ثم إلى مقهى في وسط المدينة، نشرب القهوة، نتحدث في معنى الوحدة، وفي معنى الوطن، ولا نقترب من ذكر القصيدة، فقد أدّت دورها، وفي رأسي اشتعلت أفكار أخرى.
هكذا كنت أسلّي نفسي، فلم يكن النوم ممكناً، فالسجان يبدّل نوبته، عندما يبدأ بالنعاس، فالمطلوب ألّا أنام، وما عدا ذلك غير مهم. كانت يدي اليمنى تؤلمني حتى تخدرت، ولحقت أختها اليسرى، وأعصاب عينيّ تزهر أكثر بلونها الأحمر، وتتوهجان ككرتين أشعر بهما كلما تكوّرتا أكثر. لم أنم منذ أيام خلت، لا في نهار ولا في ليل. الزنزانة لا تعرف تعاقب الوقت، وقتها دائم الثبات، لا يتقدم ولا يتأخر، ساعتها محفورة في جدارها، وعقاربها مصنوعة من الحجارة الصلبة، لا تحركها سوى الصرخة، والصرخة مكتومة في صدر السجين.
تلك الصرخة المكتومة، كانت في حينها أغنية لفيروز، تذكّرتها، بينما أتقاسم مع السجان القاعد على كرسي قبالة العمود المعلّق عليه، ليراقبني. «على باب منوقف تَ نودّع الأحباب، نغمرهن، وبتولع إيدينا بالعذاب»، همست الحروف همساً، كانت الأغنية لا تشتعل في رأسي، ففيروز كانت تشتعل في القلب، والقلب يحتاج إلى لسان وشفتين، أو إلى قلم وورقة. لم أكترث، همست الحروف الأولى من الأغنية، «على باب منوقف»، فانتبه السجان، وناداني بصوت أجش لم يرقني يوماً «وكف غنا يا فنان.. ما تغنّي». لم أكترث، غنّيت بأنفاسي، ما كان ليسمع السجان أنفاسي، ولا أن يرى ذرات الأوكسجين تدخل إلى رئتيّ وتخرج. لكنه تزحزح عن كرسيّه، ووقف واقترب نحوي، ظننت أنه فطن لـ«الأوكسجين» ورأى فيروز جالسة على شفتي، فخبأتها تحت لساني. وقف قبالتي تماماً، رأسه يواجه بطني، سألني: هل أنت نائم. فأجبته: نعم. فذهب مسرعاً ليخبر الضابط الذي أمر بعدم نومي. فعاد إلى الزنزانة برفقة الضابط، فوجدني أغنّي هذه المرة وصوتي يملأ الزنزانة، صرخ في وجهي: «وكف.. اسكت…»، وتوجه إلى جنديّه السجان، وسأله: «إنه مستيقظ ويغنّي!، من أخبرك بأنه نائم؟»، أجاب السجان ضابطه: «هو من أخبرني بأنه نائم».
في تلك الليلة، لم أنم أيضاً، لكنني اطمأننت إلى نومهم، وتأكدت أنهم في نومهم يعمهون.

*عن قصة حقيقية لأسير محرّر (بتصرف)