«اليوم التالي»، سواء جرى الحديث عنه، مباشرةً أو مداورة، على المنابر أو في الكواليس، كان يعني، عموماً، ذلك الذي يأتي، مباشرةً، بعد «القضاء» على حركة «حماس» في قطاع غزة! كان أول من سارع إلى الحديث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. هو أعلن انبثاق «خريطة جديدة» للمنطقة إثر تصفية «حماس» وإزالة خطرها، ومن ثم (ضمناً) استئناف ما حاولت عملية «طوفان الأقصى»، وقفه أو منعه: عنينا قطار التطبيع المتسارع والمفضي إلى إدماج وتكريس إسرائيل في المنطقة حليفاً وحامياً ومحوراً... في مجالات الاقتصاد والأمن و«السلام». كان هدف «اليوم التالي»، بشكل ملموس، كما أريد له أن يكون، من قبل إسرائيل وداعميها؛ أولاً، إلغاء آثار الهزيمة الإسرائيلية الصاعقة في 7 تشرين الأول، وثانياً، تحويلها إلى فرصة لإحداث تغيير جذري لمصلحة واشنطن وتل أبيب وأتباعهما. تحقيق هذين الأمرين استدعى إطلاق يد حكومة العدو في مَقْتَلة لا مثيل لها في التاريخ «المرئي»، كما لاحظ الكاتب والصحافي المصري عبد الحليم قنديل. وهي مقتلة لم تقتصر على حرب إبادة ضد المدنيين بهدف معلن هو تهجيرهم بعد جعل حياتهم مستحيلة في القطاع، بل شملت كل المؤسسات الدولية: الصحية والتربوية والخدماتية والتموينية... بما يعادل تنفيذ حكم موت غير رحيم على كل من وما هو موجود في قطاع غزة (المحاصر أصلاً حصاراً خانقاً بتواطؤ من السلطات المصرية التي حاولت التنصّل منه بذريعة القصف الإسرائيلي أربع مرات لمعبر رفح المصري). هكذا أُطلقت آلة القتل والإجرام والتدمير الإسرائيلية بدون ضوابط، ووسط حملة هائلة، من قبل قادة «الأطلسي» وعلى رأسهم المايسترو الأميركي كالعادة، لتبرير المقتلة بذريعة حق «الدفاع عن النفس». في خدمة ذلك جرى، ولأول مرة، بهذا الشكل العجيب والهمجي، إسقاط شعار وقف إطلاق النار، ولو بصيغة مطلب مجرد من أي إلزام أو التزام، وهو لا يزال قائماً بقوة الفيتو الأميركي!
بيد أنه بعد حوالي شهر ونصف شهر، من التدمير والقتل والحصار والإجرام، بما فاق ثلاثة أضعاف قنبلتي واشنطن على هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين (اللتين أُلقيتا بعد استسلام اليابان!)، عجز الصهاينة عن النيل من الصمود الأسطوري لمقاتلي وشعب غزة، وسط ذهول العالم لأمرين: حجم الهجمة الإسرائيلية التدميرية الإبادية الهائلة، من جهة، ومن جهة ثانية عظمة وأسطورية صمود شعب قرّر الدفاع عن أرضه بطريقة تنتسب إلى التجارب التحريرية العظيمة في: ستالينغراد، وفييتنام، والجزائر، ولبنان... وتكاد تتقدم عليها في جوانب ومميزات مهمة!
كان العالم يكتشف كل يوم، بل كل لحظة، في مجرى القصف التدميري الإبادي المجنون حقائق مذهلة حول طرفي وأسباب ذلك الصراع. وكان ذلك على النقيض مما صوّرته ورسَّخته الآلة الإعلامية الصهيونية والغربية بزعم أنه صراع بين «الحضارة» والإرهاب والبربرية، أو بين البشر و«الحيوانات»، حسب وصف وزير «الدفاع» الإسرائيلي الحاقد والقاتل والفاشل! لقد تبدَّلت الصورة على مستوى العالم أو أغلبه، على الأقل: إسرائيل دولة محتلة. وهي تمنع شعباً بكامله من حقه في الحياة: مستخدمةً أبشع الوسائل وكل الدعم الغربي، ضاربة عرض الحائط بالقرارات الدولية، حتى تلك التي قاتلت وقتلت من أجلها، أي القرار 181 لسنة 1947 الذي يحمل اسم «حل الدولتين»: دولة «يهودية» ودولة «عربية» على أرض فلسطين!
بسبب عجزها وخسائرها، وبسبب الإدانة العالمية الواسعة لإجرامها ومجازرها، كانت «الخطة ب». وهي خطة أعدّتها وتديرها واشنطن مباشرة


المشهد حتى بداية الهدن، أن إسرائيل عجزت و«طحَّلت» على أعتاب غزة وبسبب بسالة مقاومتها وشعبها العظيمين. لكنها تعاند وتصر على محاولة تحقيق أهدافها في غزة وكل «القطاع»، وفي الضفة الغربية المحتلة، أيضاً، عجز إسرائيل لا يحتاج إلى دليل لإثباته بل لنقضه! لكنها ليست عاجزة، خصوصاً، بسلطتها السوبر إرهابية الراهنة والدعم الغربي المفتوح وخصوصاً الأميركي منه، عن ممارسة القتل والإجرام والتهجير ضد المدنيين بكل أصنافهم: علّ ذلك يحفظ لحكامها ماء وجههم في صراعاتهم الداخلية الضارية.
إذاً، بسبب عجزها وخسائرها، وبسبب الإدانة العالمية الواسعة لإجرامها ومجازرها، كانت «الخطة ب». وهي خطة أعدّتها وتديرها واشنطن مباشرة، وبكل وسائل الضغوط والتهديد والترهيب. لأن الإدارة الأميركية، تعاني، هي أيضاً، من انعدام المصداقية، ومن تحولات جدية غير مسبوقة، بشأن الصراع العربي الإسرائيلي، في الرأي العام الأميركي والأوروبي والعالمي، لغير مصلحتها ومصلحة إسرائيل: علامات ذلك في التظاهرات الهائلة التي اجتاحت كل الدول الداعمة للعدوان، وفي الاستطلاعات، في الولايات المتحدة نفسها، حيث تلوح بوادر خسارة الرئيس بايدن في الانتخابات القادمة.
يتردّد صدى معركة «الخطة ب» الأميركية أساساً، بعد الإخفاق الإسرائيلي، في كواليس الأجهزة البريطانية الملحقة الدائمة بالخطط والمشاريع الأميركية. هذا ما أشار إليه بحيادية تامة، مراسل صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية في لندن، قبل أسبوع تماماً، وتحت عنوان بارز: (سيناريوهات «اليوم التالي»... هزيمة «حماس» وعودة «السلطة» و«حلّ الدولتين»). يؤكد الكاتب: «تنطلق السيناريوهات التي تُناقش في الدول الغربية من "حتمية" انتهاء الحرب بهزيمة "حماس" عسكرياً... وهو أمر تبدو الدول الغربية مقتنعة بأن إسرائيل قادرة على تحقيقه في حربها الحالية...». لكن أيضاً، في نطاق «الخطة ب»، كما ذكرنا، كان وقف مؤقت لإطلاق النار، وكانت «الهدن الإنسانية»، وتبادل أسرى ومحتجزين! ومرة جديدة، جريدة «الشرق الأوسط» تنقل، بعد يومين من خبر لندن، وعبر «خدمة نيويورك تايمز»، خبراً لافتاً تحت عنوان: «خلية سرية من المساعدين الأميركيين في محادثات الرهائن». وهي أوردت في مقدّمته «قبول إسرائيل صفقة الرهائن... والضغوط المكثّفة التي مارستها إدارة بايدن لإطلاق سراح محتجزين وخلق فرص طويلة المدى لتهدئة الصراع»! في السياق حضر، لاحقاً، مدير المخابرات المركزية الأميركية إلى دولة قطر، ليخفّف، من خلال تمديد المهل، الضغط الدولي على الإدارة الأميركية. وحضر وزير الخارجية الأميركي إلى تل أبيب، لنقاش وتنسيق الشق العسكري المقبل مع صقور الجموح الإسرائيلي المسعور والهستيري، في الحكومة والجيش!
لقد طار «اليوم التالي» بصيغته الأولى المتمثلة بإسقاط المقاومة بالضربة القاضية. لقد فرضت البطولات والتضحيات مساراً ذا مدى طويل. الجيش الإسرائيلي نفسه أكَّد وكرّر أن تصفية «حماس» تحتاج إلى وقت طويل وترتب خسائر «مؤلمة». أمّا واشنطن فتكافح من أجل حصر الخسائر الإسرائيلية بشكل عام والأميركية بشكل خاص. «إسرائيل معزولة أميركياً وعالمياً»، بهذا صرَّح رئيس لجنة الاستخبارات في «الكونغرس الأميركي». في السياق، ينبغي التوقف عند انعقاد «منتدى الاتحاد من أجل المتوسط» الذي استضافته في دورته السنوية مدينة برشلونة، الإثنين الماضي. لقد اضطرت إسرائيل لمقاطعة هذا المنتدى (الذي كان أحد أهدافه دعم اندماجها في المنطقة)، ورفض نتائجه، واتهام منظّميه، خصوصاً الإسبان، بـ«التآمر على إسرائيل»، الأمر الذي نفاه جوزيف بوريل المفوّض الأوروبي للسياسة الخارجية!
منذ 7 أكتوبر، بدأ، جدياً، البحث في «حل الدولتين» الذي ينبغي أن يكون محطة مفصلية في كفاح تحرري شامل لاستعادة كامل حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه... أمّا «اليوم التالي» فيجب أن لا يكون إلا فلسطينياً!

* كاتب وسياسي لبناني