في الـ 23 من تشرين الثاني الماضي، بدأ رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني، مايكل روث، رحلة «تضامنية» إلى تل أبيب؛ لأنه، كما قال عبر منصّة «إكس»، «لا علاقة لـ(حماس) بالإنسانية... سيطلقون سراح بعض الرهائن، على أن يُفرَج في المقابل عن سجناء مجرمين، فيما ستحصل (الحركة) على فرصة للاستراحة، وهي لن تستغلّها لنقل الفلسطينيين إلى برّ الأمان». يعكس هذا التصريح المشبع بالعنصرية، حال السياسة الألمانية تجاه إسرئيل، علماً أنه سبق هذه الزيارة بأيام، إعراب المستشار الألماني، أولاف شولتس، عن «تضامنه الكامل مع شعب إسرائيل»، عندما لم يكن قد مرّ يوم واحد على مذبحة مدرسة «الفاخورة»، التي أودت بحياة حوالي 200 شخص. وليس ذلك بمستغرَب؛ إذ أدّت الدولة الألمانية، عبر مستشارها، شولتس، ووزيرة خارجيتها، أنالينا بيربوك، ووزيرة دفاعها السابقة، التي تشغل حالياً منصب رئيسة «المفوضية الأوروبية»، أورسولا فون دير لايين، دوراً أساسياً في توفير غطاء سياسي للإبادة الجماعية المستمرّة في غزة.وإلى بيربوك التي ترى أن التوصّل إلى إحلال السلام في المنطقة ممكن فقط من خلال «مكافحة الإرهاب»، كان لفون دير لايين دور مهمّ في توجيه ردّ الفعل الأوّلي للاتحاد الأوروبي على العدوان، حين حدّدت، باكراً، «النغمة» التي سيتبعها التكتُّل تجاه الصراع، مخاطِبةً برلمان الاتحاد بحضور السفير الإسرائيلي، في 11 تشرين الأول، بالزعم أن «إرهابيّي حماس» قَتلوا الأبرياء لأنهم «يهود وإسرائيليون»، معلنةً أن أوروبا ستقف إلى جانب إسرائيل، وستدعم «حقّها في الدفاع عن نفسها». لكن رئيسة المفوضية واجهت انتقادات، حتى من جوزيب بوريل، وزير خارجية الاتحاد، والمشهور بدوره بمقارنته العنصرية التي شبّهت الدول من خارج التكتّل، بـ«غابة تتعدّى على حديقة الاتحاد المُعتنى بها جيداً». وقال بوريل إن زميلته لا تمتلك سلطة تمثيل التكتل في مسائل السياسة الخارجية، فيما أثارت مواقفها غضب أكثر من 800 من موظّفي المفوضية ومؤسسات الاتحاد الأخرى، نشروا خطاباً مفتوحاً، أعربوا فيه عن قلقهم حيال السياسة التي أعلنت عنها فون دير لايين، وانتقدوا «الدعم غير المشروط من اللجنة التي تمثّلها الأخيرة لأحد الطرفين»، وتجاهُل بروكسل لحقوق الإنسان و»القانون الإنساني الدولي»، فضلاً عن المعايير المزدوجة التي أظهرتها. ويسلّط هذا الوضع، الذي لم يشهد الاتحاد مثيلاً له من قبل، الضوء على كيفية فرض فون دير لايين، موقف اليمين الألماني المتطرّف، وتجاوزها سائر الدول المنضوية في إطار التكتّل.

السياسة بوسائل أخرى
على أن الدعم السياسي الذي تقدّمه الدولة الألمانية لإسرائيل، ليس مدفوعاً بالأيديولوجيا فحسب. فقد أفادت وسائل الإعلام في هذا البلد بزيادة تراخيص تصدير الأسلحة الممنوحة في عام 2023، بعشرة أضعاف، إلى حوالي 300 مليون يورو، ومعظمها منحت بعد 7 أكتوبر. وتم منح الأذونات لهذه الصادرات من دون أن تخضع لمناقشات كثيرة، علماً أنها تتعارض مع المادة 6 (3) 2 من قانون مراقبة الأسلحة الحربية، والتي تنصّ على أنه «يجب عدم تصدير أسلحة الحرب، عندما يكون هناك سبب للافتراض بأن من شأنه أن يعرّض الوفاء بالتزامات ألمانيا بموجب القانون الدولي للخطر، أو أن المشترين لا يتمتّعون بالموثوقية اللازمة». ولا يبدو أن مذبحة مستشفى «الأهلي»، التي ارتكبت بعد ساعات فقط من مغادرة شولتس، بعد زيارة «تضامنية» لتل أبيب في 17 تشرين الأول، ولا الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، أوحيا للمشرّعين الألمان بأيّ انتهاك محتمل للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
وصادرات الأسلحة تلك تأتي استكمالاً لتقليد من التعاون الأمني الإسرائيلي - الألماني، يعود إلى 70 عاماً خلت؛ إذ كانت شحنات الأسلحة الألمانية، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، قبل أن تصبح الولايات المتحدة الراعي الرئيسيّ لإسرائيل، حاسمة لجهة تمكين الكيان الاستعماري. ويستشهد تقرير لـ«الوكالة الفدرالية للتربية المدنية»، مثلاً، باعتراف شيمون بيريز، وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك، بالجودة والكمية الممتازة في عمليات تسليم الأسلحة الألمانية، في أوائل الستينيات، قائلاً: «لأول مرّة، شعر الجيش الإسرائيلي الفقير، الذي كان عليه أن يبخل بإمداداته الضئيلة، بأنه شبه مدلّل».
زادت تراخيص تصدير الأسلحة الألمانية الممنوحة لإسرائيل، بعشرة أضعاف، إلى حوالي 300 مليون يورو، ومعظمها منحت بعد 7 أكتوبر


وبين عامَي 1995و2005، استوردت إسرائيل أسلحة تزيد قيمتها على مليار دولار أميركي، وفقاً لمقال نشره الفرع الألماني لـ«رابطة الأطباء الدوليين لمنع الحرب النووية». وبحسب قناة «يورونيوز» الألمانية، فإنّ دبابات «ميركافا 4» وناقلات الجند المدرّعة «نمر»، تعمل على المحرّكات الألمانية. وعلى الأرجح، فقد حرت تعبئة السفن الحربية (طرادات من فئة ساعر) والغواصات، التي تمنح إسرائيل على الأغلب القدرة على شنّ الضربة النووية الثانية، لاستخدامها في العدوان الحالي، بعدما سلّمت إلى البحرية الإسرائيلية خلال العقد الماضي. واليوم، يبدو التعاون الأمني بين ألمانيا وإسرائيل متيناً أكثر من أيّ وقت مضى.
وترتبط بعض صناعات الأسلحة الألمانية والإسرائيلية، من خلال هياكل الملكية، أو تتعاون في مشاريع مشتركة، بحسب ما ورد في تقرير عن صناعة التسلّح صادر عن «مؤسسة روزا لوكسمبورغ». وعلى سبيل المثال، دخلت شركة «General Dynamics European Land Systems» (المعروفة سابقاً بـ EWK Eisenwerke Kaiserslautern)، في مشروع مشترك لتسويق دروع الدبابات النشطة التي تنتجها شركة الأسلحة الإسرائيلية «رافائيل» (نظام «تروفي» الدفاعي النشط، الذي نجحت المقاومة في تجاوزه بكفاءة كبيرة). ووفقاً للتقرير نفسه، تمتلك «رافائيل» أيضاً شركة «Dynamite Nobel Defense» الألمانية التي تنتج، من بين أمور أخرى، قاذفات «بانزر فاوست»، وتطوّر أيضاً حلولاً للاتصالات عالية التقنية للاستخدام العسكري.

توافق سياسي
يمكن، من الناحية القانونية، المحاججة بأن الدعم السياسي وإمدادات الأسلحة يجعلان الدولة الألمانية متورّطة بشكل مباشر في هذه الجريمة المستمرّة ضدّ الإنسانية. ويكشف المشهد السياسي إجماعاً لدى الأحزاب الألمانية على استمرار هذا الدعم، فيما رأت صحيفة «دي تسايت» الأسبوعية الألمانية أن البرلمان الألماني لم يشهد على مثل تلك الوحدة منذ فترة طويلة. كما أن الدعم للمستشار الألماني في احتضانه للإبادة الجماعية الإسرائيلية لا يتزعزع لدى أيّ من الأطياف السياسية؛ إذ يتبنّى ما يقرب من 94% من أعضاء البرلمان، حرب إسرائيل على سكان غزة. أمّا الحزب اليساري الوحيد «لينكه» (5.16% من المقاعد) - والذي يتفتّت حالياً إلى فصائل أصغر -، فقد دعا الحكومة إلى العمل بنشاط لخفض التصعيد، إلا أنّه اعترف صراحة بـ»حق إسرائيل في الدفاع عن النفس»، وشدّد على أن «تاريخ الهولوكوست ومعاداة السامية يجعلان دولة إسرائيل ضرورة تاريخية».
وبدا حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف (10.6% من المقاعد)، في البداية، أكثر انقساماً حيال موقفه من الحرب؛ ففيما دعا زعيمه، تينو شروبالا، إلى اللجوء إلى الديبلوماسية لوقف التصعيد، كوسيلة لمنع اندلاع حرب إقليمية، تبنّى العديد من أعضائه الآخرين، باندفاع، الممارسات الإسرائيلية، التي تحاكي جوهر الحزب المعادي للإسلام. إلّا أنه في النهاية، وحّدت ورقة حول السياسة الخارجية صادرة عن الحزب وجهات النظر، وجمعت أعضاءه بشكل عام حول وجهة النظر السائدة.
وفي خضم هذا النقاش الدائر في أواسط اليمين المتطرف، كان ألكسندر غولاند، الرئيس الفخري لحزب «البديل من أجل ألمانيا» الأكثر صدقاً ربّما في التعبير عن مخاوف ألمانيا، عندما قال إنّ «الهجوم لم يكن يستهدف الدولة اليهودية فحسب، بل كان يستهدفنا أيضاً. فإسرائيل تمثّل الغرب، في بيئة ترفض الغرب وتحاربه. وعندما نقف إلى جانب إسرائيل، فنحن ندافع أيضاً عن أسلوب حياتنا». ويعكس هذا التعبير مصلحة ألمانيا الإمبريالية، وشعورها بالتفوّق الأخلاقي المتجذّر في «التصالح» الملتوي مع الإبادة الجماعية التي ارتكبتها في الماضي.
يتمّ الحفاظ على الوحدة السياسية الألمانية من خلال عملية «غلايش شالتونغ» (Gleichschaltung)، - التزامن الأيديولوجي -، المتمثلة في التنسيق بين الدولة والمؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام لبثّ الرواية القائلة إن حماية أمن إسرائيل مدفوعة بـ«مصلحة الدولة الألمانية»، وهو ما أعلنت عنه، سابقاً، أنجيلا ميركل في عام 2008، وكرّره، منذ شهر واحد فقط، شولتس في تل أبيب. والأداة الرئيسيّة التي يتم من خلالها تكريس هذا المفهوم داخلياً، هي تعريف «التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست» لمعاداة السامية، والذي تتم من خلاله مساواة أيّ انتقاد لإسرائيل بـ»معاداة السامية»، وهو تعريف جرى تبنّيه رسميّاً في عام 2017، وأصبح في ما بعد أكثر حدّة. أمّا الوجه الآخر لهذا الموقف، فيتمثّل في تشويه التضامن مع فلسطين، فيما أيّ حديث عن الدَّين التاريخي الألماني تجاه إسرائيل (الهولوكوست) غير مقبول. بمعنى آخر، تعيد ألمانيا إنتاج الأنماط التي شوهدت في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة، إنّما بشكل أكثر تطرّفاً.
تزامناً مع ذلك، أصبح العرب والفلسطينيون موضع شك عام في ألمانيا. وحثّ كل من الرئيس ونائب المستشار الألمانيَّين، العرب والمسلمين على إدانة «حماس» والاعتراف بـ»معاداتهم للسامية». وبحسب ما أوردت صحيفة «دويتشه فيله»: «في (مؤتمر الإسلام في ألمانيا)، دعت وزيرة الداخلية، نانسي فيزر، كل مواطن، بمن فيهم المهاجرون، إلى دعم مسؤولية ألمانيا تجاه أمن إسرائيل». وهذا ما تقوم به تحديداً وسائل الإعلام الألمانية منذ 7 تشرين الأول. فقد تلقّى مذيعو القناة التلفزيونية الإخبارية الحكومية، «Tagesschau»، مثلاً، تعليمات حول كيفية تقديم الأخبار المتعلّقة بالصراع، بدا واضحاً أنّها تهدف إلى عرض أفضل صورة عن إسرائيل، وفقاً لوثيقة داخلية صادرة بتاريخ 18/10/2023، اطّلعت عليها «الأخبار». من جهتها، تحاول شركة الإعلام الألمانية «أكسل شبرينقر»، مالكة الصحف اليمينية «بيلد» «وفيلت» «وبوليتيكو أوروبا»، وغيرها، تغطية سياستها المنحازة لإسرائيل تحت عنوان: «التأكد من أن هذا (لن يحدث مجدداً) ليس مجرد عبارة فارغة» (في إشارة إلى المحرقة أيضاً).
ومنذ بدء التظاهرات المؤيّدة لفلسطين، جرت تعبئة الشرطة على نطاق واسع لقمعها، وبعنف كبير. كما حُظر العديد من هذه التظاهرات بذريعة الإضرار بالأمن العام أو التحريض على الكراهية و»معاداة السامية». ورأت الإدارة الألمانية أن شعارات من قبيل «من النهر إلى البحر» و «لا للإبادة الجماعية» «معادية للسامية» أيضاً. وفي برلين، كان ارتداء الكوفية أو حمل العلم الفلسطيني سبباً كافياً لتعريض صاحبه للتفتيش أو حتى الاعتقال، في الأسابيع الأولى التي تلت السابع من أكتوبر. وطاولت هذه الهستيريا المجال الثقافي، إذ ألغت مؤسسات ثقافية عدّة الأحداث المتعلّقة بفلسطين، أو تلك التي تتضمّن مشاركة فلسطينيين، حيث جرى مثلاً إلغاء حفل توزيع جوائز كانت ستحصل فيه الكاتبة الفلسطينية، عدنية شبلي، على جائزة، علماً أنه كان مخطّطاً له خلال «معرض فرانكفورت الدولي للكِتاب».
وتمثل هذه التطورات في التوجهات السياسية الداخلية والخارجية، المتجذرة في احتضان الصهيونية كأيديولوجية سياسية لإسرائيل، بدء إطلاق العنان للميول الفاشية على نطاق اجتماعي واسع، إذ أصبحت الحرب مسألة طبيعية، وتصاعدت الكراهية للإسلام والعنصرية المعادية للفلسطينيين بشكل ملحوظ، فيما أثبتت تهمة «معاداة السامية» الملصقة بالتضامن مع فلسطين فعاليتها في مواجهة المعارضة، وستظلّ تُستخدم كسلاح ضدّ الحركات السياسية المعارضة.