وإذ تحاول دول الخليج، بذلك، الهرب من الواقع المرير المتمثّل في نشوء منافس جدّي لها على الجانب الجنوبي من الجزيرة العربية، خشية أن يشكّل خطراً على وجودها في حال استمرت في عدائها لليمن، فإن القيادات والنخب الخليجية تعكف، انطلاقاً من حالة الإنكار هذه، على الترويج لكون العمليات اليمنية ضد السفن الإسرائيلية غير مؤثّرة، وستجلب الدمار لليمن، وتشكّل تهديداً للملاحة الدولية، وتستغلّ قضية فلسطين، وتوفّر ذريعة للقطع البحرية الإسرائيلية للانتشار في البحر الأحمر. وفي الوقت نفسه، تنظر تلك القيادات والنخب بكثير من التوجّس والريبة إلى السلوك الأميركي حيال العمليات المشار إليها، ولا سيما في ظلّ النقاش الدائر حالياً في دوائر القرار الخليجي حول الحماية الأميركية والجدوى منها.
قد تضطر واشنطن للطلب من الشركات الإسرائيلية أو المتعاملة مع إسرائيليين تجنّب باب المندب
وترى القيادات السياسية في الخليج في الصمت الأميركي أمراً محيّراً، إذ إنّ إسرائيل هي القاعدة الأمامية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل في العالم. ومع ذلك، تطغى الحسابات الأميركية على المصالح الإسرائيلية في هذه الجزئية من الصراع، وهو ما يثير خشيةً خليجيةً من أنه في حال افتراق المصالح، ولو على المستوى التكتيكي، فإن واشنطن قد لا تفعل شيئاً لحماية دول الخليج، وتبقي ظهر الأخيرة مكشوفاً. وهي مخاوف لا يخفيها السعوديون في نقاشاتهم التي تجري بشكل شهري مع مسؤولي الإدارة الأميركية الذين يزورون الرياض، إذ يقولون لهم: «إنكم تركتم أجواءنا مكشوفة في كثير من المرات أمام الاستهداف اليمني للمنشآت الحيوية في المملكة».
والواقع أن عدم الردّ الأميركي على الهجمات اليمنية ينطلق، بالدرجة الأولى، من الحرص على منع اتّساع رقعة الحرب. ومع ذلك يبدو أن واشنطن لم تتّخذ بعد قراراً نهائيّاً حول ما يجب فعله إزاء ما يحصل في البحر الأحمر، وهو ما انعكس في تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، الأخيرة، حينما قال إن بلاده بحاجة إلى مزيد من التشاور لتشكيل قوة بحرية لحماية السفن في المياه الدولية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن قوات مشتركة متعدّدة الجنسيات، هي عبارة عن شراكة بحرية من 34 دولة، منها دول الخليج ومعظم دول «الناتو»، تتموضع في البحر الأحمر. وفي السياق نفسه، أعلنت «هيئة البث الإسرائيلية»، أمس، أن إسرائيل بحثت مع دول أخرى إنشاء قوة لحماية الملاحة في البحر الأحمر. لكن رغم كل ما تقدّم، ثمّة اعتراف غربي بصعوبة منع صنعاء من تنفيذ مهماتها في البحر الأحمر، حيث اعتبرت مجلة «نيوزويك» الأميركية أن «محاولة حماية كل سفينة تجارية تتحرّك في البحر الأحمر عبر باب المندب، هي بمنزلة كابوس على البحرية الأميركية».
ولا تخفي الرياض وأبو ظبي رغبتهما في دخول واشنطن في مواجهة مباشرة مع صنعاء، وهي رغبة عمرها من عمر الحرب على اليمن. كما لا تخفي كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل أن عملية عسكرية ضدّ اليمن لن تكون إلا بالشراكة مع السعودية والإمارات. وتدرك جميع هذه الدول أنه ليس لدى صنعاء ما تخسره، وأن أيّ اعتداء عليها سيبرّر للقوات المسلحة اليمنية توسيع الاشتباك ليشمل كامل مساحة البحر الأحمر وباب المندب، ونسبيّاً بحر العرب، مباشرة أو بواسطة الأصدقاء. كذلك، يعلم الجميع أن اليمن يوظّف موقعه الجغرافي المميّز بكفاءة، بما يخدم أهدافه العسكرية والإستراتيجية، فيما تعرف واشنطن، التي راقبت بحريتها الجيش اليمني ومناوراته المتعدّدة في البحر الأحمر في أكثر من مناسبة، القدرات والإمكانات والتكنولوجيا المتوافرة لديه، والتي في مقدورها تنفيذ المهمّات البحرية في ظلّ وجود قوى أجنبية معادية.
وعليه، قد تضطرّ الولايات المتحدة، في الأيام والأسابيع المقبلة، للطلب من الشركات الإسرائيلية أو الشركات المتعاملة مع إسرائيليين تجنّب باب المندب، وذلك لمنع مضاعفة الأعباء على القطع الأميركية المنتشرة في الخليج، وأيضاً لمنع زيادة التعقيد على مسارات الملاحة البحرية. لكن غرق إحدى السفن في باب المندب - وكان من الممكن أن يحدث هذا في استهدافات يوم الأحد الماضي - قد يؤدي إلى التأثير على التجارة العالمية بأسرها، خصوصاً في الغرب وأوروبا، وقد يفرض على واشنطن التدخّل العسكري وتوسعة الحرب، وهذا ما تعمل على تجنّبه إلى الآن.