غزة | لم يكن أمامنا سوى الخروج. اقتربت الدبابات الإسرائيلية كثيراً من حيث نقيم، وصار جميع الرجال في مواجهة خيارَين: إمّا الأسر والتصفية الجسدية، أو الانسحاب تحت وابل القصف المدفعي والجوي العنيف، والتوجّه إلى واحد من مراكز الإيواء التي لا تبعد هي الأخرى سوى بضعة مئات من الأمتار عن خطّ النار الأخير. عزمنا أمرنا، أطباء وصحافيين ومعلّمين حكوميين وحتى شباناً لم يتجاوزوا العشرين من العمر، على المخاطرة بدلاً من الوقوع أسارى بين يدي الجنود. دقّت الساعة العاشرة مساءً، وسمعنا هدير الدبابات. خرجنا تحت وابل من القصف المدفعي والرصاص الذي تطلقه طائرات «الكواد كابتر» المسيّرة. في وسط الظلام الحالك، تعثّرت خطواتنا بركام البيوت المقصوفة، وبجثث الشهداء الملقاة على الأرض. تشغيل أيّ مصدر إضاءة يعني أن تصبح هدفاً سهلاً للقناصة والطائرات المسيرة. سقطنا أكثر من مرة في حفر امتلأت بمياه الصرف الصحي. عزمنا أمرنا على أن يمسك كلٌّ منّا بيد الآخر. من هو في مقدمة الصف سيأخذ على عاتقه التعثّر والسقوط، على أن ينبّه من هم خلفه بأن يحترسوا. هكذا انقضت 20 دقيقة.في إحدى مدارس «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين»، حطّت بنا القدم. أكثر من 15 ألفاً من النازحين يفترشون الممرّات وساحة المدرسة غير المسقوفة. لم يكن ثمّة مكان تضع فيه قدمك. تَفضّل بعض الشبان، وسمحوا لنا بالجلوس في أسفل درج المدرسة، أي في مساحة لا تتجاوز الـ3 أمتار. تكدّسنا، 13 شاباً، بعضنا فوق بعض. غير أن هذا «الرخاء» لم يدُم طويلاً، إذ داهمنا المطر، والقذائف أيضاً، ما اضطرّ مئات الأسر التي كانت تفترش الأرض والعراء في ساحة المدرسة للدخول إلى ممرّاتها وفصولها المسقوفة. مضت ساعة كاملة قبل أن يهدأ المطر قليلاً، وتخرج المئات من العائلات من الزحام، إلى الخيام مجدّداً. لكن ما هي إلّا دقائق حتى بدأ القصف المدفعي، وسقطت شظاياه على المدرسة، ليصاب ثلاثة من الأطفال بها. عمّت الجلبة، وبدأ الصراخ، قبل أن يتمكّن الشبان من إخراج الأطفال إلى نقطة العلاج الميداني في وسط المخيم.
أكثر من 15 ألفاً من النازحين يفترشون الممرّات وساحة المدرسة غير المسقوفة


انقضت ساعة أخرى، فيما الرعب يحيط بالجمع الكبير. انتصف الليل، وهدأت النفوس رغم أن القصف لم يهدأ. في ممرّات المدرسة المزدحمة، لا شيء يحفظ خصوصية المئات من النساء اللواتي يفترشن الأرض، سوى المروءة. أبو أحمد، هو «عميد» النازحين، خرج من بيته المدمَّر في بيت حانون في الأيام الأولى من الحرب. يقول لـ«الأخبار»: «هذه الليلة من أقسى ليالي الحرب. لم نشهد ازدحاماً مماثلاً. أخلى أهالي تل الزعتر وشرق ترنس جباليا منازلهم بسبب القذائف، وتكدّسوا هنا. الدخول إلى الحمام يحتاج إلى طابور قد تنتظر فيه إلى الصباح. الخبز عملة نادرة، والمياه الصالحة للشرب مفقودة، فيما لا الكهرباء ولا أدنى مقومات الحياة متوافرة». ويضيف الرجل الذي لا تشير ملامح وجهه إلى أنه تجاوز الخمسين بكثير، إلى أن هذه الحال لم تكن كذلك في الأيام الأولى من النزوح، ولكن الضغط المستمر الذي تسبّبه زيادة أعداد النازحين التي تتضاعف يوماً بعد آخر، أسهم في الضغط على مصدر المياه الوحيد، الذي فُقد تماماً بعدما توقّف بئر المياه الذي يغذّي المخيم عن العمل تماماً.
ثقيلةً تمضي ساعات الليل. النوم على البلاط الغارق بالمياه والوحل، أمر لا يمكن التأقلم معه. الجميع ينتظر شروق الشمس؛ ذلك أن النهار مساحة للانعتاق من وحل مركز الإيواء. صحيح أن البدائل ليست أفضل بكثير، ولكن مجرّد المشي تحت أشعة الشمس، يشكّل مساحة لالتقاط الأنفاس. سُمع أذان الفجر، بعدما تعهّد مؤذن المخيم، الذي تجاوز من العمر السبعين عاماً، أمام الناس، بألّا يقطع عنهم الأذان. يخوض الحاج مهمة استشهادية خمس مرّات في اليوم، بالنظر إلى أن المساجد تشكّل هي الأخرى هدفاً للقصف. اصطفّ الآلاف من الرجال للصلاة، ولكن في التكبيرة الثانية داهمتهم غارة، ثمّ حزام ناري. سُمع الصراخ مجدّداً: «إسعاف... إسعاف». تبيّن أن الطائرات الحربية دمّرت مربعاً سكنياً لعائلات فرج الله وصقر ودرابيه، وأكثر من 20 منزلاً محيطاً. خرج الرجال مع ساعات الصباح، ولكن ليس إلى الشوارع، إنّما إلى الدمار المهول. ثمّة مهمّة تحتّم عليهم مضافرة الجهود. أكثر من 100 إنسان تحت الأنقاض تُسمع صرخات بعضهم ثم تغيب. ينتشل الرجال من تصل إليهم أيديهم من الشهداء، لتتكدّس جثامين 40 شهيداً في عيادة المخيم الوحيدة، فيما حيث كان يريد أن يمشي الرجال في النهار، حُفر قبر جماعي جديد.