بغضّ النظر عن الوقت الذي سيستغرقه اقتناع القادة الإسرائيليين بأن لا مناص أمامهم من إنهاء الحرب على قطاع غزة، إلّا أن الأحداث كلّها تخدم المسار المشار إليه، والسبب ليس فقط وجود هذا العدد الكبير من الأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» والضغط الذي يمثّله ذلك الجزء من الجمهور الذي يريد إطلاق سراحهم بأيّ ثمن، وإنما لأن الجيش نفسه، في دولة أقلّوية كإسرائيل، لا يمكنه الاستمرار طويلاً في تحمّل كمّ كبير من الخسائر البشرية. وهنا، لم يعد يغيّر كثيراً بالنسبة إلى الإسرائيليين ما إذا كان عدد الشهداء الفلسطينيين 20 ألفاً أو 40 ألفاً أو 80 ألفاً.منذ البداية، تمكّنت المقاومة من تحييد نقاط قوة الجيش الإسرائيلي، والمتمثّلة في حجم النار والتكنولوجيا، نسبياً، عبر استخدام شبكة الأنفاق، والقذائف المضادّة للدروع، ليتبيّن أنه حتى لو لم يكن يوجد مدني واحد في قطاع غزة عشية الهجوم البري، لما كانت النتيجة تغيّرت كثيراً. فالمدنيون لم يكونوا للحظة واحدة عائقاً أمام جيش العدو، بل على العكس ممّا تَقدّم، كان ارتكاب المذابح بحقهم مُصمَّماً ليخدم هدف الضغط المعنوي على المقاومة. لكن ذلك أيضاً جاء بنتيجة عكسية، وأدّى فقط إلى إشعال الغضب والرغبة في الانتقام لدى مقاتلي الفصائل، في حين أن العدو لم يترك للمواطن الغزّي العادي الذي يسدّد الفاتورة الأكبر لهذه الحرب، الكثير من الخيارات.
في كلّ مشهد من مشاهد السياسة الإسرائيلية اليوم، تجد دليلاً على الفشل، بدءاً من ذوي الأسرى الذين يطالبون بلا وجل بالاستجابة لكلّ مطالب حركة «حماس» المتمثّلة في التوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار وتبادل الأسرى على أساس الكلّ مقابل الكلّ، مروراً بالجدل الذي تثيره سياسة الجيش في مقاربة موضوع الخسائر البشرية والمشاهد التي يراها الإسرائيليون للجنود المبتوري الأطراف، وصولاً إلى الخلافات داخل الحكومة، وآخرها دعوة وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، إلى حلّ مجلس الحرب والعودة إلى الحكومة الموسعة، وهو ما يعني عملياً إسقاط صفة «الوحدة الوطنية» عن الحكومة التي أسبغها عليها انضمام بيني غانتس وغادي إيزنكوت إليها.
المقاومة الفلسطينية في موقع قويّ للتفاوض، والجزء الأصعب من الحرب قد مرّ


تتصرّف قيادة حركة «حماس» على أن أداء المقاتلين الرفيع على الجبهات، وكذلك دماء الغزّيين، يحتّمان دقة عالية في الأداء السياسي، والسعي إلى فرض الحدّ الأقصى الممكن من الشروط على العدو. والتسريبات التي يجري تداولها في الإعلام الإسرائيلي عن طبيعة المناقشات، تشير إلى أن الحركة يمكن أن تحصل على صفقة قد تنهي الحرب كلياً. فعندما يقول هذا الإعلام إن إسرائيل تقبل بإطلاق سجناء بارزين وتطبيق هدنة قد تصل إلى شهر، ويجري خلالها الانتقال إلى المرحلة الثالثة من الحرب، والتي لا تشمل قصفاً عشوائياً شاملاً، فهذا يعني أننا في مرحلة مختلفة تماماً عن تلك التي كان العدو يرفض فيها زيادة يوم هدنة واحد، وكان متعجّلاً لاستئناف القتال، بداعي الاستفادة من زخم الهجوم الذي يشنّه الجيش. الآن، لا يبدو أن القادة الإسرائيليين يمكنهم التعويل كثيراً على تحقيق إنجازات في الميدان، ولذا، لا مشكلة لديهم في هدنة طويلة.
قد يكون تسريب العرض الإسرائيلي المذكور مناورةً، الهدف منها إظهار «مرونة» أمام الجمهور المطالب بعودة الأسرى، وتحميل مسؤولية فشل المفاوضات للطرف الآخر. لكن هذا لا يغيّر من حقيقة أنه عرض إسرائيلي، وسقف تفاوضي يمكن لمزيد من الضغط أن يخفّضه. وفي كلّ الأحوال، ثمّة قاعدة في المفاوضات تفيد بأن الطرف الذي يسرّب، هو ذلك الذي يعتقد أن الصفقة التي يجري التفاوض عليها، خاسرة بالنسبة إليه. يعني ذلك، أن إسرائيل، بمواكبة لصيقة من الولايات المتحدة، هي حالياً في مرحلة إعادة صياغة أهداف الحرب على غزة. ومن بينها هدف مفصلي يتوقّف عليه الكثير في المسار الذي ستسلكه الأمور بعد الحرب أو بعد مرحلة القصف العشوائي الشامل منها، أو مرحلة المجازر وهدم المباني والبنى التحتية، وهو القضاء على «حماس». حتى هذه اللحظة، ما زال الأميركيون والإسرائيليون يرفعون هذا الهدف، فيما الخلاف يدور على الأسلوب، الذي يتوقّف عليه أيضاً الكثير، وخاصة مستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وحكومته.
الولايات المتحدة تريد تحويل الحرب إلى عمليات جراحية تستهدف البنى العسكرية للحركة وقادتها، حتى لو طالت. فذلك يخفّف عنها وعن حلفائها في العالم والمنطقة الضغط الذي تسبّبه مشاهد الأشلاء والدمار في غزة. ولكن هذا النوع من الحرب قد لا يكون كافياً لتبرير سعي نتنياهو وأركان حكومته إلى تأجيل المحاسبة على ما حدث في السابع من تشرين الأول وما بعده، ما يعني إمكانية الإطاحة بهم ومحاسبتهم خلالها. ولذا، يرغب الأخيرون في الاستمرار بالعمل على أهداف قصوى، من مثل تهجير كل الغزّيين إلى خارج القطاع، وهو هدف لم يعُد يبدو واقعياً كثيراً، نظراً إلى الأضرار البالغة التي يسبّبها لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
كل ما تقدّم يفيد بأن المقاومة الفلسطينية في موقع قوي للتفاوض، وبأن الجزء الأصعب من الحرب قد مرّ، وكلّ المطلوب الآن هو انتظار تعاظم الضغط، ولا سيما من الداخل الإسرائيلي، لإجبار مجانين حكومة نتنياهو على الرضوخ. وأمّا المقاومة التي لم تستطع الحرب المدمّرة إلحاق الهزيمة بها، أو حتى أن تُضعف أداءها القتالي، فلن تؤثر عليها «العمليات الجراحية». وهل كان أحد يمنع إسرائيل من القيام بـ«عمليات جراحية» في الحرب للقضاء على قادة «حماس» والفصائل الأخرى؟