لا تزال تصريحات وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، التي أطلقها قبل أيام، تثير تساؤلات عديدة في أوساط المعارضة السورية: هل تخلّت أنقرة كلياً عن هذه الأخيرة؟ وما مصير الشمال السوري مستقبلاً؟ وهي تساؤلات لا تلقى أي إجابة واضحة، في ظل تراجع الاهتمام العالمي بشكل عام بالقضية السورية من جهة، وانشغال تركيا بملفات تخدم مصالحها الداخلية من جهة أخرى. ويأتي ذلك في وقت تقتصر فيه الاجتماعات التي يجريها مسؤولون أتراك مع ممثلي المعارضة السورية، بشقَّيها السياسي والفصائلي، على التشديد على ضرورة التمسك بمسارات الحل السياسي، بعد فشل محاولات عديدة لتوحيد الفصائل وبناء هيكلية مؤسساتية في الشمال الممزّق بين «حكومتين»؛ الأولى تنشط في ريف حلب الممتد إلى ريف الرقة، والثانية يحكم زعيم «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، قبضته عليها في إدلب.وأكّد الوزير التركي، خلال مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي، أكثر من مرة، تمسك بلاده بالحل السياسي، في وقت شدّد فيه على ضرورة منع أي صراع جديد بين الحكومة السورية والفصائل المعارضة، معتبراً أن ذلك سيؤدي إلى «نسيان الكراهية لدى الجانبين»، وفق تعبيره. وأشار فيدان إلى أن تجدد الصراع سيعيد خلق موجات لجوء سورية جديدة نحو تركيا، في الوقت الذي تحاول فيه بلاده التخلص من عبء اللاجئين، حيث كثّفت أنقرة، على مدار العامين الماضيين، عمليات ترحيل السوريين نحو الشمال السوري، سواء عبر تقديم مغريات وبناء وحدات سكنية في إطار مشروع «مدن الطوب» المموّل من قطر قرب الشريط الحدودي السوري - التركي، أو من خلال عمليات الترحيل القسرية التي ارتفعت وتيرتها خلال العام المنصرم. وهذه الخطوات أدّت، وفق رئاسة الهجرة التركية، إلى انخفاض عدد السوريين الموجودين في تركيا نحو 10% عام 2023، إذ أظهرت الإحصاءات الجديدة تراجع عدد الحاصلين على بطاقة الحماية المؤقتة (الكملك) إلى 3 ملايين و226 ألفاً و141 - بعدما كان 3 ملايين و535 ألفاً و898 في أواخر عام 2022 -، وهو الرقم الأدنى منذ أكثر من سبع سنوات.
كذلك، رأى وزير الخارجية التركي أن نشوب أي صراع جديد سيفسح المجال أمام «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، الذي تعتبره تركيا امتداداً لـ«حزب العمال الكردستاني»، لتمتين حضوره في سوريا، و«ترسيخ مشروعه الانفصالي»، في مناطق «الإدارة الذاتية» المدعومة أميركياً، وهو ما يشكّل إحدى نقاط التوافق السوري - التركي في إطار المبادرة الروسية - الإيرانية للتطبيع بين دمشق وأنقرة، والمجمّدة في الوقت الحالي بسبب رفض تركيا الانسحاب من سوريا، أو وضع جدول واضح لهذا الانسحاب. وكانت فشلت جولات ولقاءات عديدة أمنية وسياسية، شارك فيها فيدان نفسه، الذي كان يرأس جهاز الاستخبارات التركية في معظمها، في وقت كان من المتوقّع فيه أن تفتح زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لتركيا، الباب أمام إمكانية استكمال العمل على مسار التقارب، قبل أن تؤجل إلى «وقت آخر مناسب»، بعد «هجمات إرهابية» استهدفت مدينة كرمان جنوب شرقي إيران.
تشهد خطوط التماس بين مواقع سيطرة الفصائل «الجهادية» والجيش السوري خروقات عديدة ومتكررة


وسبقت تصريحات الوزير التركي، الذي هاجم واشنطن بسبب دعمها المستمر لـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد)، زيارة وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي بدأ جولة في المنطقة انطلاقاً من تركيا، حيث ناقش مسائل عديدة من بينها هذا الدعم الذي تعتبره أنقرة مساساً بأمنها القومي. وخلال الشهور الماضية، تجاهلت الولايات المتحدة الغارات شبه اليومية التي تشنها طائرات تركية مُسيّرة ضد مناطق تسيطر عليها «قسد»، استهدفت إلى جانب اغتيال مقاتلين، تدمير مواقع نفطية ومستودعات وبنى تحتية. وكانت أعلنت أنقرة تنفيذ 48 استهدافاً ضد تلك المناطق خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، منها 36 ضربة على منطقة القامشلي في ريف الحسكة، و12 على منطقة عين العرب في ريف حلب، بالإضافة إلى عشرات الاستهدافات المدفعية والصاروخية في محيط منبج، والتي خلّفت وراءها دماراً وعشرات الضحايا.
وفيما تؤكد أنقرة سعيها لضمان «حالة جمود وتهدئة يمكن أن يُبنى عليها مسار حل سياسي»، تشهد خطوط التماس بين مواقع سيطرة الفصائل «الجهادية» والجيش السوري خروقات عديدة ومتكررة، إذ تشنّ الفصائل هجمات عديدة سواء عبر «انغماسيين»، أو باستعمال القذائف الصاروخية والمُسيّرات الانتحارية، الأمر الذي يرد الجيش السوري عليه باستهداف مواقع تمركز المسلحين، بالإضافة إلى المستودعات وغرف التحكم والقيادة. وشملت تلك العمليات مناطق عديدة من بينها مدينة إدلب التي يسيطر عليها الجولاني، والتي كانت بعيدة عن عمليات الجيش، وفق اتفاقات «خفض التصعيد» الموقّعة بين أنقرة وموسكو. لكن ما تشهده خطوط التماس من خروقات متواصلة، يفتح الباب أمام معارك مباشرة في ظل الحضور العسكري الوازن للجيش السوري، وعجز تركيا عن الوفاء بتعهداتها بما يخص إدلب، سواء لناحية فتح طريق حلب – اللاذقية، أو عزل الفصائل «الإرهابية». إلا أن موجة التصعيد الأخيرة في مناطق «خفض التصعيد»، لم تلقَ أي أصداء، حتى الآن، في تركيا، التي تصر على تمسكها بمسارات الحل التي رسمتها الاتفاقات مع روسيا وإيران، شريكيها في مسار «أستانا»، الذي دخل بدوره حالة جمود على وقع المتغيرات الدولية التي فرضتها الحرب الروسية في أوكرانيا، وحرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة.