غزة | في سوق معسكر جباليا المركزي، والذي يعجّ بالآلاف من المارّة، يدور الأهالي في حركة مستمرة، من دون أيّ هدف. هنا، يعرض الباعة كماليات من مثل سكاكر الأطفال وعلب صلصة الطماطم والسمنة، وكميات وفيرة من المكسرات الباهظة الثمن، فيما تختفي بشكل كلّي كل الأصناف الأساسية؛ فلا أرز ولا بقوليات ولا طحين ولا أيّ نوع من المعلبات. خلال الأيام الماضية، ساهم انسحاب دبابات الاحتلال من المناطق الشرقية إلى شمال وادي غزة، في تحقيق انفراجة جزئية، حيث وصلت أيادي المواطنين إلى مستودعات أعلاف الحيوانات، وتمكنت من حلحلة أزمة الجوع لبضعة أيام. هكذا، طحن الأهالي كل ما وقعت عليه أيديهم من أعلاف الدواب: القمح الرديء، الشعير، الذرة، حبوب العدس، طعام العصافير والقطط، وأخيراً الأرز، للحصول على شيء يشبه الدقيق يمكن أن يصنعوا منه الخبز.
غير أن تلك الانفراجة سرعان ما تبددت، خلال اليومين الماضيين، حيث ارتفعت أسعار الكميات البسيطة من الأرز، المعروضة على البسطات، بأربعة أضعاف، فقفز سعر الكيلو الواحد منها من 5 شواكل إلى 22 شيكلاً، فيما الطحين الأبيض، نادر الوجود، قفز سعر الكيلو الواحد منه، إلى ما يتجاوز سعر الكيس الكامل قبل الحرب، أي من 35 شيكلاً للكيس زنة 25 كيلو، إلى 35 شيكلاً للكيلو الواحد. كذلك، اختفى دقيق القمح المستخرج من علف الحيوانات، تماماً، وغابت الكميات البسيطة من العدس والبقوليات، فيما الأخيرة وصلت أسعارها إلى مستويات فلكية.
في شارع سوق جباليا، التقينا أبو أحمد عودة، وهو كهل أكل الدهر على ظهره المحدودب وشرب. طاف الرجل سوق المخيم الممتد ثلاث مرات، ولم يتمكن من شراء أي شيء يسدّ به جوع أطفاله الثمانية. يقول لـ«الأخبار»: «في جيبي 50 شيكلاً فقط. من المفروض أن أعود إلى العائلة التي تسكن في مركز إيواء مدرسة شادية أبو غزالة، وفي يدي ما يمكن أن يأكلوه، كوجبة وحيدة طوال اليوم. محاولاتي كلها لم تفضِ إلى نتيجة. المبلغ الذي أمتلكه لا يكفي لشراء طعام لشخصين اثنين، وأنا أتحدث عن أردأ أنواع الطعام، ليس لحماً لا سمح الله، خبز مطحون من أعلاف الدواب».
الطحين الأبيض، نادر الوجود، قفز سعر الكيلو الواحد منه إلى ما يتجاوز سعر الكيس الكامل قبل الحرب


أما أحمد حمودة، وهو بائع شاب يقف على بسطة عليها القليل من المكسرات وسكاكر الأطفال ومعلبات المشروم ورب البندورة، فحين سألناه عن الأرزّ والدقيق، ضحك قائلاً: «المضحك أكثر إنو اليوم إجانا تعميم من الشرطة بإنو ممنوع نبيع كيلو الأرزّ بأكثر من 8 شواكل، وكيلو دقيق القمح بأكثر من 15 شيكلاً، جهد ممتاز فعلاً، لكن من الصبح وأنا ببحث عن كيلو رز أشتريه حتى أطعم ولادي بـ 25 شيكل ومش لاقي».
على طرف السوق الشرقي، حيث يتجمع العشرات من المشترين حول بسطة تعرض كميات وفيرة من البرتقال والليمون، خاض البائع رحلة مجبولة بالقذائف والشظايا، لكي يستخرجها من حيث بيارته في حيّ الشيماء شمالي مدينة بيت لاهيا. يشتري الأهالي البرتقال والليمون بالحبة التي تعادل 2 شيكل. يقول أحمد كيلاني وهو صاحب البسطة: «اليوم صار البرتقال وجبة رئيسية. الطفل لمّا بطنه تؤلمه من الجوع، إمو بتعطيه نصف برتقاله كغذاء أو ليمونة مع القليل من الملح، ما فيه خيارات، حتى سعر كيلو البرتقال وصل إلى 8 شواكل، بعدما كان بـ 3 شواكل قبل عدة أيام، العالم ما معها تشتري، الفقير والغني في هيك ظرف جوعان».
في شرق سوق المخيم المركزي، أطفأ مطبخ دحلان ناره هذا اليوم: لا أرزّ ولا مياه حتى يطهو الوجبة التي تثاءبت منها أمعاء النازحين طوال 100 يوم من الحرب. يقول أبو محمود دحلان، وهو صاحب المطبخ: «ارتفع سعر الأرزّ من 140 شيكلاً، إلى 330، وحتى بهذا السعر مش متوفّر. لا أهل الخير قادرين على توفير الأرز، ولا الناس قادرة على شراء الطبق بدون لحم بـ 30 شيكلاً عوضاً عن 10 شواكل، أغلقنا المطبخ إلى إشعار آخر».