غزة | وَجد أهالي شمال قطاع غزة أنفسهم أخيراً، أمام خيبة الواقع القاسي؛ إذ لم يسهم الانسحاب الإسرائيلي من المناطق الغربية لشمال محافظة الشمال، في أيّ حلحلة في السوق الراكدة، بعدما تفاءلوا بأن يؤدي ذلك، وخصوصاً في المناطق الشمالية لبلدة بيت لاهيا، التي تمثّل رئة القطاع الزراعية، إلى إحداث فارق يعصم مئات الآلاف من النازحين من قرصات الجوع. ومع مضيّ أسبوع على الانسحاب، بقيت الأوضاع على حالها. يقول أحمد القبط، وهو مزارع التقيناه وكان قد عاد لتوّه من أرضه الزراعية في منطقة السيفا أقصى شمال بيت لاهيا: «لم نجد في أرضنا ما يمكن الاستفادة منه. داست الدبابات مزارع البطاطا، وأتلفت محصول الفراولة، وجرفت ما تبقّى من أشجار الليمون والبرتقال. سرحنا من طلوع الشمس، وعدنا بالحسرة والخيبة». وفي سوق مخيم جباليا المركزي، تتجلّى شهادة القبط واقعاً؛ إذ لم تفِد إلى بسطات الباعة، سوى كميات محدودة من الجزر، وأقلّ منها من البطاطس الفاسدة المخصّصة للزراعة، وأقلّ منهما من محصول الفراولة الذي نجا من جنازير جرافات الـ«D9» بمعجزة. يقول أبو وليد، وهو بائع خمسيني يدير بسطة خضار فقيرة بالخيرات: «لَمَّا انسحبوا، قِلنا أجا الفرج. غابوا الناس أيام، ورجعوا بشوية فلفل أخضر، وشوية فجل وجزر، وباذنجان فاسد، وبطاطا لا تصلح للاستهلاك الآدمي». غير أن الوافد الجديد إلى الأسواق، هو النباتات البرية الموسمية، من مثل الخبيزة والحمصيص والسلق والرجلة؛ وتلك حشائش بريّة تنبت في فصل الشتاء، وقد أسهم المطر الغزير، في الشهرَين الماضيَين، في نموّها على نحو سريع، ليجد فيها الأهالي، الحلّ الأخير لتأمين وجبة اليوم الوحيدة. على أن هذا الخيار ليس سهلاً كما هو متوقّع: «كل الطبخات البرّية غالية؛ كيلو السلق بـ8 شواكل، الحمصيص إلي بيحتاج إلى خبز ليؤكل، بـ6 شواكل»، وفقاً لما تقول الحاجة أم محمود مليحة. وتضيف، في حديثها إلى «الأخبار»: «هذه الأكلات ما كان حدا يقبلها قبل الحرب، وكانت تُباع بمبالغ زهيدة جداً. اليوم مع القلّة، ارتفع ثمنها إلى عشرة أضعاف ما هي عليه في الأيام العادية، والمشكلة القائمة، أنها بحاجة إلى خبز لتؤكل. لهيك، إحنا بنلفّ في دائرة مفرغة، آخرها إنو الأولاد يناموا جعانين».
تجاوز سعر الكيلو الواحد من اللحوم هامش الـ40 دولاراً


يذكر أن جيش الاحتلال يمنع، منذ انتهاء هدنة السبعة أيام، قبل أكثر من شهرين، دخول أيّ مساعدات إنسانية إلى مناطق شمال وادي غزة، فيما أقدم، الإثنين، على قصف شاحنة المساعدات الوحيدة الذي نسّقت «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» لدخولها، ما اضطرّ أكثر من 450 ألف نازح في تلك المناطق، لطحن أعلاف الدواب، كالقمح والشعير والذرة منخفضة الجودة، ليصنعوا منها الخبز، لكن حتى الأعلاف نفدت من الأسواق تماماً في الأسبوع الأخير. وبحسب أبو محمد لبد، الذي يدير مطحنة صغيرة في مخيم جباليا شمالي القطاع، فإن ما وصلت إليه أيادي الأهالي والتجار عقب الانسحاب الإسرائيلي من حي التفاح ومنطقة الشجاعية شرقي مدنية غزة، من مخازن الأعلاف هناك، لم تتجاوز كميته الـ100 طن، وقد استُنفدت تلك في غضون أسبوعَين فقط. ويتابع الرجل حديثه إلى «الأخبار»: «اليوم، تتوافر كميّات محدودة جداً، وارتفع ثمن الكيلو الواحد من القمح، من 10 شواكل، إلى 30 شيكلاً. وعلى رغم أن تلك لا تصلح للاستهلاك البشري، وتفوق أسعارها قدرة الأهالي المادية، لكن هذا ما هو متوافر».
وسط ذلك كلّه، تتزايد في كل يوم، حالات الوفاة من جرّاء سوء التغذية، إذ لم يتناول سكان شمال القطاع، منذ أكثر من 100 يوم، وجبات دسمة وغنية بالسعرات الحرارية، بعدما تجاوز سعر الكيلو الواحد من اللحوم هامش الـ40 دولاراً، وفُقدت كل المواد التموينية والبقوليات من الأسواق.