strong> ثائر غندور
زياد صعب هو واحد من مجموعة الكوادر الشيوعيين الذين كان لهم دور فاعل في انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وعملها. واليوم، ربما هو بين القلائل ـــــ من هؤلاء الكوادر ـــــ الذين بقوا في المعترك السياسي بشكله الحزبي، فخرج من رحم الحزب الذي صنع المقاومة من أجل إنشاء «يسار ديموقراطي» كما يرى ورفاقه دور اليسار اليوم. يشغل منصب نائب أمين السرّ في حركة اليسار الديموقراطي، ويدافع بشراسة عن قناعاته، وخصوصاً وجوده في تحالف 14 آذار. يرى أن الحرب الأهلية ليست بعيدة كثيراً عن لبنان، «ولا يظن أحد أنه يُمكن أن يكون في منأى عن نارها»، لكنّه يرى أن وجود الجيل الذي شارك في الحرب الماضية على قيد الحياة يسهم في منع تجدّدها، ويحدّد منذ اليوم موقع حركته: «خارج أي قتال داخلي».
اللقاء معه على شاطئ البحر يوم الأحد 16 أيلول، دفعني إلى سؤال سريع: لماذا لست في ذكرى إطلاق الجبهة؟ ردّ قائلاً إن هذا اليوم «أيقونة في التاريخ المظلم العربي، ولكن لا أريد لهذا التاريخ أن يتقدّس».
درس لأول مرّة دورة أركان في الاتحاد السوفياتي عام 1976، ولم يكن يبلغ السابعة عشرة من عمره، وتزوّج في العشرين، وخلال الاجتياح الإسرائيلي كانت ابنته تمارا تبلغ سنة من العمر. يشعر بـ«الذنب» إلى حدّ ما تجاه ابنته تمارا وابنه مازن، لأنه لم يستطع أن يكون إلى جانبهما خلال مراحل نموهما. يستدرك هنا بالقول: «لا أندم على تجربتي وولداي تأثّرا في عملي السياسي والعسكري». يدرك اليوم هذا الفرق، من خلال متابعته لنمو طفلته الثالثة كارلا، التي هي ثمرة زواجه الثاني بعد طلاقه من زوجته الأولى. وهنا أيضاً، يرى أنّه لم يظلم زوجته الأولى «فقد كان عندها خيارها السياسي أيضاً في الحزب الشيوعي، لكن المؤسسة الزوجية كانت ضحيتنا كلينا معاً». اليوم يرى للمرة الأولى كيف ينمو الطفل بشكل بطيء. لا يعبّر مازن وتمارا عن «عتب على والدهما، لكنه هو يعي في داخله أنهما ظلما، ويشعر بتقصير حيالهما لم يعد يستطيع تعويضه لهما. سيجارة الونستون لا تفارق في هذه الأثناء شفتيه، فهو مدخّن شره. بدأ التدخين وهو في الثامنة عشرة عند سقوط مرجعيون في يد عملاء إسرائيل الذين كانوا بقيادة غسان الحمصي قبل مرحلة سعد حداد.
موقفه من تجربته واضح جداً: قد تكون هناك أخطاء، لكن في تلك اللحظة العمرية والسياسية «لم نكن نراها»، ولذلك هو لا يندم على تجربته. يرى أن الحزب الشيوعي كان حاضراً لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، إذ إن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية لم تأتِ من فراغ، بل من أساس خصب رغم كل الظروف الصعبة التي كانت تحيط بلبنان في تلك الفترة، حيث إن خمسين في المئة من الأراضي اللبنانية كان «ممنوعاً علينا دخولها (الأراضي التي كانت تحت سيطرة اليمين اللبناني) ولذلك لم يحتج الإسرائيلي احتلالها». فقد سبق انطلاقة الجبهة، الوجود في الجنوب ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك منذ تأسيس الحرس الشعبي. والسبب لا يعود إلى مجرد نزوة لمقاتلة ما يسميه البعض «اليهود»، بل هذا «كيان مغتصب»، ولذلك واجب أن يتم رفع الظلم عن الشعب المغتصبة حقوقه، «ولكوننا كيانات مختلفة في العالم العربي فإن على كل واحد منّا مكافحة أساس المشروع الإسرائيلي وهو التوسّع». يرى صعب أن هذه هي خلفية انطلاقة الجبهة، ولذلك يقول إن 16 أيلول هو التعبير عن بداية الجبهة ليس إلّا.
يلفت زياد إلى أن عدم قدرة الحركة الوطنية على الصمود في وجه الاحتلال إلّا في بيروت يعود إلى أن القرار المالي والعسكري كان في يد منظمة التحرير الفلسطينية والقرار السياسي في يد النظام السوري. والوجود السوري كان «بوصاية أميركية، من دون أن أقلّل من دور الجنود السوريين الذين قاتلوا». بهذا المعنى يرى أن الدولة اللبنانية كانت مفكّكة، فإذاً، لا حاضن اجتماعياً للمقاومة، «وقد يكون ذلك إيجابياً لانطلاق «الجبهة» لكن بلا حاضن للمقاومين». لم يكن هناك خط أمان للمقاوم بل يُمكن أن يتعرّض للقتل في أي مكان. «فالناس الذين عادوا وقاوموا كانوا قد رشّوا الأرزّ على الجيش الإسرائيلي عند دخوله». يرى أن الموضوع ليس تقنياً أو بسالة من الأفراد بل هو مرهون بقدرة المجتمع على التوحّد واحتضان المقاومة. ويشير إلى أن الحزب الشيوعي كان قدّ حضّر مجموعات لحرب العصابات بعد اجتياح 1978. ويلفت إلى إرادة المواجهة وهي الأصعب، فما حدث «كان الأول من نوعه، إذ وصل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى عاصمة عربية». هنا يتذكر زياد صعب حالة الإحباط التي أصابت العديد من المواطنين، وأدّت إلى رميهم السلاح في مكبّات النفايات، التي أصبحت أحد مصادر تمويل المقاومة بالسلاح. هنا يؤكّد أنه لم يُصب بالإحباط، بل إلى حدّ ما بالخيبة، ولو «أصبت بالإحباط لكنت قد رميت سلاحي... بل شعرنا بدافعٍ للمواجهة».
كان زياد صعب مسؤول القوة المركزية للحزب الشيوعي الموجودة في المدينة الرياضية في بيروت قبل الاجتياح، وبعد أربعة أيام طلبت القيادة منه ومن مجموعة مؤلفة من نحو ثلاثين من عناصر النخبة العسكرية التوجّه إلى صيدا لتنظيم مقاومة ثابتة، لكنهم لم يصلوا إلى صيدا إذ إن معبر باتر كان قد أصبح تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي؛ «فقرّرنا نقل المواجهة إلى الجبل وشاركت في مواجهات سوق الغرب ـــــ كيفون ثم تسلّلت إلى بيروت بعد اتفاق فيليب حبيب» (الاتفاق الذي نظّم انسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان). وعند سؤاله عن دوره في الجبهة يقول: «أنا واحد من مجموع، ولست «غرانديزر»، ولكن لي الشرف أن أكون واحداً من القلائل الذين بدأوا في عمل الجبهة».
أسهم زياد في التخطيط للعمليات الأولى، ويتحدث عن الفرح الكبير الذي غمره بعد العملية بسبب ردّ فعل الناس في بيروت، «إذ بدأت الوشوشات تقول إن الشباب عادوا، وشوشات تنمّ عن فرح وخوف».

أسباب توقّف «الجبهة»

وتوقّفت الجبهة عن عملها! في تلك المرحلة لم يكن زياد صعب في موقع المسؤولية جبهوياً، لكنّه كان قد عاد إلى مسؤوليته السابقة بقيادة القوّة المركزية للحزب الشيوعي، كما شارك في مواجهة حرب تموز 1993. يرى أن أهم أسباب وقف الجبهة هو أن مشروعها ليس تحرير الأرض وحدها، بل تحرير الإنسان، «أعتقد أن الخوف من مشروع المقاومة التغّييري هو الذي أدى إلى وقفها. ولو كان الهدف فقط إطلاق النار لكنّا نصفّق حتّى الآن لصدّام حسين، فهو أطلق صواريخ سكود على إسرائيل». في رأيه، حاول النظام السوري السيطرة على المقاومة ولم يستطع، «وهذا الأمر ليس مرتبطاً فقط بالقرار السياسي بل بعدم القدرة على تنفيذه عملياً. كان المطلوب أن نقاتل ومن ثم نرى من يثمّر». ففي كل العالم عندما تقاتل مقاومة ما فإنها تتسلّم السلطة، إلّا في لبنان، وذلك حصل مع النموذجين الوطني والإسلامي، فالأول مُنع والثاني لا قدرة له على تسلّم السلطة بسبب التنوع الطائفي في لبنان، ولهذا ربما مُنع الأول.
يضع سيجارته جانباً، ويبعد يديه عن آلة التسجيل ليقول: «عندما رأيت هذا الهجوم على المقاومة الوطنية أدركت صوابية خياراتنا وخطورتها على جميع الأنظمة العربية التي تدّعي المقاومة والممانعة وجلّ ما تريده هو الحفاظ على سلطتها».

أولويات المرحلة

وعند الحديث عن المقاومة الإسلامية، يفصل بين المقاومين والمشروع. «لا يمكن إلّا أن أرفع القبعة وأفتخر أن في بلدي أناساً مستعدّين للتضحية حتى الموت في سبيل قضيتهم، لكن ما هو المشروع؟». وهنا يسأل: «لماذا سُمح لهذه المقاومة بالاستمرار؟ هل تملك مشروعاً لتحرير الإنسان؟ هل تحمل مشروعاً تغييرياً ويمكن أن تحمل النظام السياسي إلى مكان أكثر تطوّراً؟» هذه أسئلة يراها مشروعة لكنّه لا يملك جواباً عنها.
يقرّ بوجود مشروع أميركي للسيطرة على المنطقة بسبب وجود النفط، لكنه يرفض الاختيار بين المشروعين، لأنه يعتقد أن النظامين السوري والإيراني يريدان مفاوضة الأميركيين لا مواجهتههم، «ولا أستبعد فتح جبهة الجولان في سبيل التفاوض». يحدّد أولويته في بناء دولة، بغضّ النظر عن النظام السياسي، ولذلك يجد نفسه مع قوى 14 آذار لأن البديل منها هو الفراغ. يقرّ بوجود اختلافات في التصوّر للنظام السياسي الذي سيحكم لبنان بين صفوف فريق 14 آذار، «لكن عندما يصبح هناك دولة تستطيع أن تعبّر من خلالها بحرية، ستتغيّر حكماً طبيعة التحالفات». فهو يؤمن بالتراكم من أجل التغيير، لا الانقلاب.
لا يرى أن موقعه خلال عدوان تموز كان القتال العسكري «لكن لو استمرت الحرب وتكرّس الاحتلال لكنت واجهت». وعن احتمال اللقاء والعمل مع حزب الله، يردّ: «ربما. مَن كان يعتقد أن ألتقي هنا مع القوّات اللبنانية»؟ ويسأل: «كيف تمنع المشروع الأميركي من السيطرة، والمشروع الإسرائيلي من التوسّع؟ وهل يناضل البعض في لبنان من أجل إعادة إعطاء النظام السوري الضوء الأخضر للسيطرة على لبنان؟». ويرى أن المواجهة الأساسية هي مواجهة سياسية ـــــ ثقافية ـــــ اقتصادية ـــــ عسكرية، ويرى أن حزب الله يمكن أن يصبح «لواء استنزاف» في الجيش اللبناني. لكنّه يصرّ على رفض عقد أي اتفاق سلام مع إسرائيل لأنها «كيان مغتصب» ويشير إلى أن القضية الفلسطينية أصبحت الأولوية الثانية بعد القضية الوطنية التي تتمثّل ببناء الدولة. ينتهي الحديث مع زياد، وتكون علبة الدخان قد شارفت على النهاية. ينظر إلى البحر بثقة ليقول: «نأخذ الصور هون لأنه أكثر مكان يعني لي في بيروت».




الشاب والبحر كما أن تلك النقطة، كانت نقطة التقاء بين المقاومين في بيروت، «حيث كنّا نتموّه بشكل صيّادين».
يذكّره البحر بالشهيد محمود المعوش (جلال). «إذ إن الستة أشهر التي سبقت اغتياله أمضيناها معاً وكنّا ننزل بشكل يومي إلى البحر». المعوش لم يكن يتقن السباحة، لكنه كان يحب الصيد، فكان ينزل بثيابه العسكرية، يتمشى على البحر وزياد يسبح ويصطاد السمك.
ينزل باستمرار إلى البحر، «لكن أحبّه أكثر في فصل الخريف». وعند سؤاله إذا كان ينزل مع زوجته إلى الشاطئ أجاب ممازحاً: «عندما تتزوّج لا تعود تنزل مع زوجتك».
يرى أن أهمية هذا الشاطئ ازدادت مع الوقت بسبب ازدياد عدد الفقراء، ونقص مساحة الشاطئ بسبب التعديات على الأملاك البحرية التي شوّهت الشاطئ وغيّرت بعض معالمه.



الجزء الأول | الجزء الثاني