strong> فداء عيتاني
قرر الأميركيون في العراق ضرب «القاعدة» وتصفية نفوذها، وتخفيف وجودهم تدريجاً، وبالمواجهة قررت «الدولة الإسلامية في العراق» تخفيف الثقل عن عاتقها في ما يتعلق بالمقاتلين العرب، وإيفاد المئات منهم إلى الخارج، إلى ملاذات آمنة تجهزهم للجهاد أو تؤسس لمناطق كامنة
«المستقبل للقاعدة»... أو لقوى تجيب عن سؤالَي الدولة والمقاومة

في نهايات 2006 استُقْطب شاكر العبسي، الذي أعتقل في سوريا ثلاث سنوات. في السجن تمت عملية تحوله العقائدي، حيث اعتنق الفكر السلفي، وعندما خرج عُرض عليه التعاون مع مجموعات مجاهدة، عبر تسهيل مرور المجاهدين إلى العراق. وكانت مجموعات من «القاعدة» تتصل بكل الأطراف المقربين من سوريا في محاولة تجنيدهم من أجل تشكيل «شبكة عبور إلى العراق». تجاوب العبسي مع المتصلين به، وأرسى تفاهماً مع أبو خالد العملة على قاعدة تسهيل حركة المجاهدين لقاء مبالغ مالية، وكانت الدفعة الأولى نصف مليون دولار أميركي، على أن يتم أيضاً إيواء المجاهدين تمهيداً لعبورهم الحدود في هذا الاتجاه أو ذاك.
كانت العناصر الجهادية تصل إلى لبنان عبر المرافئ الشرعية اللبنانية، ومن كان ينتقل منهم إلى سوريا تمهيداً للذهاب نحو العراق كان يحصل على بطاقات عسكرية من أبو خالد العملة (فتح الانتفاضة) مذيّلة بعبارة «لا مانع» التي تخولهم التجوال في سوريا وحمل العتاد العسكري الخفيف، وكان العملة يؤكد أن «العبسي زلمتنا»، ثم تبين لاحقاً أن العبسي هو رجل «القاعدة»، وانكشفت الأمور في سوريا، وتبين أن العبسي خدع العملة، الذي تتردد معلومات عن كونه مسجوناً أو قيد الإقامة الجبرية في سوريا.
القبض على العملة وانشقاق العبسي فضحا شبكة ما سيعرف لاحقاً باسم «فتح الإسلام»، التي تقول مصادر متقاطعة إنها مرتبطة بـ«القاعدة» ـــــ الفرع العراقي ـــــ وبعد إعلان الانشقاق أظهرت «فتح الإسلام» في نقاط وجودها قدراً عالياً من الانضباط.
انتشرت مجموعات مؤيدة لـ«فتح الإسلام» قبل أحداث البارد في مخيمات البداوي وبرج البراجنة والبارد طبعاً، حيث تعاطف الناس معهم بداية، وتلقت «فتح الإسلام» الاتصالات من الحالات الإسلامية اللبنانية والفلسطينية، كما جرى الاتصال بهم من جانب تيار «المستقبل» ـــــ على ما يؤكد مصدر جهادي في مخيم عين الحلوة متابع للملف ـــــ إذ كان «المستقبل» يملك توجهاً لاستقطاب الحالات السنية وتمتين العلاقات معها لتكريس زعامة «المستقبل» على القوى السنّية، والحصول على بعض القوى العسكرية الحليفة تحسباً لما تحمله الأيام المقبلة.
في عام 2006 بدأت مجموعات من الشبان تصل الى لبنان لتنضوي تحت لواء «فتح الإسلام». التنظيم ضمّ حينها ركيزة أساسسية من «قاعدة الجهاد في بلاد الحرمين» («القاعدة» في السعودية)، وكان العديد من هؤلاء الشبان يأتي بهدف تمويل أعمال المقاومة في العراق، ناقلاً المال وداخلاً عبر المرافئ الشرعية، والبعض وصل لإعطاء دروس دينية، أو للحصول على تدريبات عسكرية، أو للاحتماء من الملاحقات، وكان العديد من الشبان يدفعون المال للالتحاق، في سبيل الوصول الى لبنان نقطة عبور الى العراق حيث أرض الجهاد ضد الأميركيين، كما كان العديد من المتطوعين للعمليات الاستشهادية يدفع المال (ما بين 20 الى 50 الف دولار أميركي) للوصول الى العراق وتنفيذ عملية استشهادية (عبر الخط العسكري السريع للوصول إلى الجنة) دون الاضطرار الى انتظار دورهم في لوائح الاستشهاديين العادية، التي قد يستغرق تنفيذ عملية عبرها مدة أشهر. والتحق بـ«فتح الإسلام» فلسطينيون من غزة، وعرب مرحّلون من العراق.
مثّل اللبنانيون الملاحقون من القوى الأمنية والمقتنعون بالجهاد آخر روافد «فتح الإسلام»، وبقي العديد من الثغر غير مكتشف، وخاصة لناحية الروابط بين هذه القوى التابعة لـ«القاعدة» والعديد من الشخصيات السياسية والقوى الشمالية خاصة، ومع الأجهزة الأمنية من قوى أمن ومخابرات الجيش التي فاوضت «فتح الإسلام» قبل أشهر من اشتعال حرب الباردلا يمكن الجزم بأن جميع قادة «فتح الإسلام» مرتبطون بـ«القاعدة»، وإن كان من المؤكد أن العديد منهم كذلك، وأن «القاعدة» هي النواة الصلبة للتنظيم، إلا أن إنشاء «فتح الإسلام» كان لتدريب قوات عسكرية للقاعدة يمكنها التحرك نحو العراق او فلسطين او ضرب اليونيفيل في لبنان بحراً او براً. والعديد من العناصر العربية واللبنانية التي التحقت بـ «فتح الإسلام» التحقت بناءً على فترة مؤقتة تستمر أشهراً تغادر بعدها إمّا الى بلادها أو الى أرض للجهاد.
وفي وقت سابق، وخلال الأشهر الأولى من عام 2007، أوقفت مجموعات من «فتح الإسلام» في مناطق شمالية، وأفرج عنها لاحقاً.
وفي رأي أحد الذين عاصروا العديد من الحركات الجهادية فإن «فتح الإسلام» أجادت التعامل مع الواقع، وأعلنت في بياناتها الأولى أنها ستمثّل حالة في مواجهة الحالة الشيعية، وهنا تتردد المعلومات عن تعاون ما للسلطات الأمنية مع «فتح الإسلام»، حيث تم نقل عناصر من عين الحلوة إلى البارد قبل المعارك، ثم أعيد بعضهم بآليات فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، وقبل المعركة بنحو أسبوعين تم نقل 12 عنصراً من عين الحلوة إلى البارد وإعادتهم لاحقاً إلى عين الحلوة. خرجت بشكل رئيسي مجموعتان من عين الحلوة إلى العراق، وهما مجموعة علي مصطفى («فتح الإسلام» ـــــ عين الحلوة) التي ذهبت إلى مخيم نهر البارد، ومجموعة شحادة جوهر المنشق عن «عصبة الأنصار» الذي يعتبر نفسه حالة خاصة، وذهبت مجموعته إلى العراق.
ويرى أحد الجهاديين السابقين أن لبنان سيشهد ظهور حالات أخرى مشابهة لـ«فتح الإسلام»، وهو الآن أصبح في دائرة استقطاب «القاعدة»، والعديد من علماء الدين السلفيين يرون أن ظلماً كبيراً لحق بـ«فتح الإسلام»، وهم يتحدثون خلف الكواليس عن «الصمود الأسطوري» الذي أظهره مقاتلو التنظيم المحاصرين من كل حدب وصوب.
ويرى أن ظروف نشوء خلايا «فتح الإسلام» لم تتغير، بل هي تتكرس، فلا حوارات بين دار الفتوى والسلفيين لاحتواء الموقف، كما أن انعدام الحوار مع الشيعة يزيد من تعقيد الموقف، واستمرار منع الإسلاميين من الجهاد في الجنوب يحوّلهم في اتجاه «القاعدة»، كما أن التجييش والتعبئة الطائفية مستمران في البلاد. «القاعدة» الآن تخوض مواجهة عالمية في معركة حياة او موت، وبعد إخفاقات اليسار وبعد 11 أيلول تبنت «القاعدة» نهائياً خيار الكفاح المسلح، وأهم عامل لتجميع الحركات الإسلامية هو العدوان الخارجي. وبالنسبة إليهم «فإن الله هو أوّلاً، وليس أي شيء آخر».
لقد تم عزل مجموعات «فتح الاسلام» سياسياً واجتماعياً وشعبياً وعلى مستوى الإمداد، وصمدوا صموداً نادراً، ورد الفعل سيكون عبر مواقف سياسية وشعبية «تقدّر» هؤلاء لاحقاً، والجو المعادي لهم افتعله تيار «المستقبل»، وهو جو سياسي، وقد ينعكس في الشارع على نحو مختلف تماماً في فترة لاحقة، بينما مجموعات «فتح الإسلام» لم تقدم نفسها كصاحبة قدرات متفوقة او قدرة عالية على الصمود، بل كانت تقدم نفسها مجموعة مجاهدة لا أكثر.
العديد من المجموعات التي ارسلتها الدولة الإسلامية في العراق الى لبنان جاءت تحت ضغط حرب تموز، وكانت ترى أن المواجهة مع اسرائيل مستمرة الى ما شاء الله، لكنها وجدت نفسها في لبنان بمفردها بعد توقف المعارك.
المشروع الإسلامي في المنطقة على تناقض كامل مع المشروع الاميركي، وهو خارج المشروع السوري او الإيراني، وإن كان المشروع القاعدي يتقاطع مع العديد من الأطراف، وفي لبنان استدرج هذه المجموعات طرف، لكن النتيجة لم تكن لمصلحته، وهذه المجموعات لم توافق على الانحياز الى طرف في الصراع اللبناني المحلي، ويجب دائماً رؤية المشروع القاعدي بصفته خطاً آخر غير الخط السوري أو الإيراني، وحتماً لا يقاس بالقوى المحلية اللبنانية ومصالحها الصغيرة.
أدت تجربة «فتح الإسلام» إلى رد فعل ايجابي لدى الإسلاميين المغامرين، وإن كانت الممارسات الأمنية تزيد من النقمة، وخاصة بالاعتقال وسوء التعامل مع التدين، وهما مما يساهم في تطرّف المتدينين. «وكمسلّمة فإن الشدة في غير مكانها تنتج تطرفاً غير محدود. والصورة المسبقة التي يقدمها الإعلام عن الاسلاميين، تُشعر المسلمين بالاستخفاف بمشاعرهم» بحسب ما يقول الشيخ ماهر حمود.
ويرى إمكان «القول إن التطرف مستورد من خارج لبنان، وإن الأسباب الداخلية غير كافية لإنتاجه. لكن هذه الأفكار تأتي وتذهب، ولبنان ليس في معزل عن فكر «القاعدة»، وشخصياً فوجئت بحجم «فتح الإسلام» وبما فعلته، وبعد هذه المفأجاة يجب أن نكون متواضعين في توقعاتنا».
ويضيف حمود: «للأسف، الاسلام الجهادي مشرذم، وأعتقد أن أي إنجاز، سواء كان عنيفاً او غير عنيف، يخفف الفروق. وإذا قدم مفتي الجمهورية موقفاً محترماً فإن كل الإسلاميين سينضوون تحت لوائه».
«الفكر السلفي في لبنان غير مركزي، وهو بالتالي بقيادات ومشارب فكرية متنوعة، كما انه يتمول من أقنية عدة، وعملياً فإن فكر «القاعدة» موجود لدى كل السلفيين، لكن هم يختلفون عنها في ترتيب الأولويات، وما ينقص هو اقامة صلات فعلية مع «القاعدة»، او بالأحرى انتظار أن تقيم القاعدة الصلة بهم، وفي إمكان «القاعدة» ـــــ إن هي قررت ـــــ اختراق العديد من المجموعات والأفراد الوهابيين، و«تصدير الثورة» واقامة تركيبة وآليات فاعلة. وكل الجهاديين في لبنان وفي العالم يتمنون ظهور صلاح الدين جديد ليموتوا امامه وفداء لقضيتهم، وإن كان البعض يرى في الشيخ اسامة بن لادن صلاح الدين فربما كان ذلك التفكير من باب التمنيات»، بحسب ما يقول أحد علماء الدين من الشمال.
تحولت «القاعدة» إلى اللامركزية، وصارت لديها ألوية في فلسطين، وبدأت تكوين بنى تحتية، دون تفعيلها حتى اللحظة. وأصبحت «القاعدة» حالة مقيمة في الدول العربية. أما إنهاء المعركة في مخيم نهر البارد فسيحوّل «فتح الإسلام» إلى حالة معنوية، عبر تحويل اعضائها الى شهداء وألغاز وأساطير.
ويتجه لبنان من ناحيته الى مرحلة خطرة، التوازن في لبنان اليوم يقوم بين السنة والشيعة، ودور هامشي للمسيحيين، وهناك العديد من المجموعات الاسلامية الجهادية التي يمكنها ان تقاتل ضد الشيعة، حتى لو رغم إرادتها. وستلعب «القاعدة» على ملفين هما: التفاهم على الدولة، وموضوع المقاومة. واذا لم يحد السنّة بالدولة عن المشروع الاميركي أولاً، وينتزعوا دورهم بالمقاومة، فإن الأبواب ستكون مشرّعة أمام استقرار «القاعدة».
المحور الجهادي الافتراضي لـ«القاعدة» في لبنان موجود ومنتشر، وهو يتفاعل في الفضاء الإلكتروني (السيبرناطيكي) وهو وهمي، إلا أنه يتجانس مع تنظيم «القاعدة» وبنيتها، و«القاعدة» هنا تتماهى مع نفسها في العمل عبر الانترنت، ولا تفتعل، كونها هي ايضاً تشبه الانترنت بصفته فضاءً متعدد السرفرات وغير مركزي على الإطلاق.
«وفي لبنان العديد من الاطراف التي لا ترى غضاضة في أفكار «القاعدة»، وهي غير مرتبطة بالسياسة اليومية، بل مرهونة للمبدأ (العقيدة)، وهي اليوم تخبط خبط عشواء، وفي النهاية فإنها مرتبطة بفكرة الصراع ضد الأميركيين وإسرائيل، وهي تبحث يساراً ويميناً، ويوماً ما ستصيب في اتجاهها وتتابع معركتها إلى النهاية، سواء على مستوى الدول العربية او على مستوى اسرائيل» كما يتنبأ الشيخ إبراهيم الصالح.
الفكر الإسلامي لدى اهل السنّة والجماعة هو دائما فكر وحدوي، لا يقبل التجزئة ولا يفرق، والموقف السني من الشيعة هو موقف رد الفعل، وليس ايديولوجياً، والخلاف بين الجهاديين غير «القاعديين» (نسبة إلى تنظيم القاعدة) وبين «القاعديين» هو في التفاصيل الداخلية، والسنّة يعملون على مجموعة مبادئ لا على تكتيكات واستراتيجيات، وهو ما يؤدي الى عجز على مستوى الخطاب السياسي.
وتقع الحركة الجهادية في العراق «تحت ضغط العرض»، حيث يأتي شبان أثرياء من السعودية وغيرها يحملون معهم 50 الف دولار اميركي لينفذوا عمليات استشهادية مع «القاعدة»، حتى لا ينتظروا على قوائم الاستشهاديين الطويلة. وطرح الأميركيون شعار «تجفيف منابع الإرهاب مالياً»، كان الشعار صحيحاً»، ولكنه ىمستحيل التطبيق، فالأفراد هم من يغذون الجهاد، (وفي لبنان وصل عدد المدعى عليهم في قضية «فتح الإسلام» من اللبنانيين إلى 69 مقابل 43 سعودياً لغاية تاريخ 11 ايلول 2007).
يتجه لبنان إمّا نحو توافق كبير في المنطقة، يعطى خلاله دور لمجموعات إسلامية من أجل قطع الطريق على «القاعدة»، وإمّا عدم توافق ولا يبقى من خيار في الأرض إلاّ «القاعدة».



الجهاد والطبقة السياسية اللبنانية

«عندما التقيت داخل السجن في سوريا القادة الإسلاميين وأخبرتهم عن تجربتي كانوا يقولون «هذا الشاب كثير الكذب، ولكن يا سبحان الله... أخباره مسلية». هكذا يقول معتقل سابق في السجون السورية. أمّا أحد قرّاء هذه الحلقات في موقع «الأخبار»، فيعلّق: «كلام مضحك والله، فيه من التأليف الكثير. حقاً الكاتب خياله خصب جداً».
والواقع أنّ فئات في الطبقة السياسية تعمد إلى استخدام الرعب للقول إن النتيجة الوحيدة لفشل «مشروع الحريري» سيكون التطرف «القاعدي»، إلا أن المعضلة تكمن أولاً في غياب «مشروع الحريري»، اللهم ما عدا «العدالة والحقيقة والمحكمة»، وهي شعارات توازي «السيادة والحرية والاستقلال» من حيث فراغها، عدا عن أن «مشروع الحريري» وفي زمن مؤسسه لم يتكوّن مشروعاً قائماً بذاته، وفشل مع انتهاء «وعد الربيع» الشهير.
الجانب الأكثر رعباً في هذه المعادلة هو فوز المشروع الأميركي، وتكريس نفسه في لبنان، فمنذ ما بعد عملية اجتياح افغانستان، باتت القاعدة تتبع أميركا ليس فقط حيث تستقر جيوشها، بل حيث تنهض مشاريعها السياسية، وربما لاحقاً إذا انتصر المشروع الحريري فإن «القاعدة» ستجد لنفسها أبواباً مشرّعة للعمل.
يبدو الكلام عن «القاعدة» في لبنان ضرباً من الخيال، إلا أن الأرقام والمعلومات باتت تشير إلى واقع مختلف تحاول الطبقة السياسية التعامي عنه. فقبل أشهر، وحين نشرت «الأخبار» في شهر نيسان تقارير توضح خطر ما يجري في شمال لبنان، لم تجد سوى سخط من مسؤولين امنيين، ومحاولات اتهام سياسية!




الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | الجزء الحادى عشر | الجزء الثاني عشر | الجزء االثالث عشر | الجزء الرابع عشر