نقولا ناصيف
سدّدت قوى 14 آذار ضربة قاسية إلى المعارضة، بتوجيهها مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تضع المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عهدة مجلس الأمن. وسواء نظرت المعارضة إلى خطوة الغالبية على أنها محاولة متعمدة لإسقاط الحوار معها، أو محاولة لإنقاذ مشروع المحكمة الدولية من السقوط أمام أبواب مجلس النواب، فإن المذكرة أدت إلى إرباك جدي للمعارضة، ووضعتها أمام خيارات جديدة وضيّقة، من شأنها أن تترك انعكاساً أكثر إحراجاً قبل أشهر من بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، الخريف المقبل.
ولعلّ أبرز النتائج التي أفضت إليها مذكرة قوى 14 آذار إلى الأمم المتحدة هي:
1 ــــــ الانتقال بالمواجهة مع سوريا على مشروع المحكمة الدولية من لبنان إلى المجتمع الدولي، بحيث تصبح دمشق وجهاً لوجه مع مجلس الأمن إذا رفضت المشروع علناً، بعدما كانت قد تركزت جملة المواقف الرسمية السورية لأشهر خلت، وكذلك ما أدلت به القيادة السورية أمام زائريها، على أن الخلاف الدائر على مشروع المحكمة، وكذلك الهواجس والمخاوف المحيطة به بالنسبة إلى هذا الفريق أو ذاك، لا يعدو كونه إلا نزاعاً لبنانياً ــــــ لبنانياً لا شأن لها به لأن لا علاقة لها بجريمة اغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية. وهو ما أبرزته تكراراً في قولها إنها غير معنية بمشروع المحكمة الدولية، وإنه لا ملاحظات خطية لها عليه، وإنها أكثر اهتماماً بالخطر الذي يتهدّد حلفاءها، وخصوصاً حزب الله من خلاله. لكن انتقال مشروع المحكمة إلى طاولة مجلس الأمن من شأنه أن يفرض أمراً واقعاً مختلفاً يخرج الطرف اللبناني، موالياً أو معارضاً، من الخلاف على هذا الموضوع ويحمل سوريا على أن تقول كلمتها المباشرة فيه.
2 ــــــ سحب مشروع المحكمة الدولية نهائياً من الحوار الذي كان دائراً بين الغالبية والمعارضة عبر الرئيس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، وجعل لقاء الرجلين من الآن فصاعداً عديم الجدوى بعدما أضحى لا جدول أعمال لاجتماعاتهما. وفي الواقع فإن أي جهد لمعاودة الحوار بات يتطلب صيغة وآلية جديدتين وجدول أعمال آخر يأخذ في الاعتبار تطورات الساعات الأخيرة. حوار لا هو على طريقة طاولتي الحوار والتشاور، ولا على طريقة الاجتماعات الثنائية.
3 ــــــ جرّدت قوى 14 آذار المعارضة من أحد أقوى أسلحتها في المواجهة معها، وهو عدم انعقاد مجلس النواب لمناقشة مشروع المحكمة الدولية، الأمر الذي يجعلها تتخلى من الآن فصاعداً وبسهولة عن الاهتمام بالخوض في موضوع تأليف حكومة وحدة وطنية، نظراً إلى أن التسوية السياسية التي عمل عليها رئيس المجلس ربطت بين إقرار المحكمة الدولية وتأليف حكومة وحدة وطنية. وبعدما نجحت الغالبية في أولى مناوراتها مع المعارضة، وهي الدخول في حوار على تأليف حكومة الوحدة الوطنية وإبداء الاستعداد لتأييد تأليفها بغية استنزاف الحوار مع الإيحاء بوجود تناقض في المواقف بين الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع، استخدمت مناورتها الثانية لوقف الحوار عندما أكد الحريري أن معادلة 19 + 11 هي «انتحار سياسي» واغتيال ثان للرئيس الراحل، فأوصدت بذلك أبواب الحوار دون الحلول التي تريدها المعارضة، إلى أن وجهت ضربتها المفاجئة عبر مذكرتها إلى الأمم المتحدة.
مغزى الأمر أن الغالبية لم تتوخَّ من الحوار مع بري إلا إمرار مشروع المحكمة الدولية، من غير أن تكون مستعدة للتخلي عن سيطرتها على مجلس الوزراء على نحو ما هو عليه الآن.
4 ــــــ أحالت مذكرة قوى 14 آذار اعتصام المعارضة في ساحة رياض الصلح، المستمر منذ الأول من كانون الأول الفائت، عديم الفاعلية بعدما كان إحدى وسائل الضغط على قوى 14 آذار لإرغامها على إدخال تعديلات على مشروع المحكمة الدولية. والواضح في سلسلة اقتراحات الحل، سواء التي طرحها بري أو من قبله الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، أن تفكيك الاعتصام كان أحد المطالب الملازمة لإجراء مراجعة لمشروع المحكمة الدولية وتعديله. وهو رمى تالياً إلى إحكام الترابط بين إقرار المحكمة وتأليف حكومة الوحدة الوطنية. لكنه بات الآن بلا مغزى سياسي ما دام الهدف الذي رمى إليه خرج من السجال والنزاع الناشب بين الغالبية والمعارضة.
وليس خافياً أن المقيمين في خيم الاعتصام هم في الوقت الحاضر عناصر أمنية تابعة لحزب الله تتولى حمايته، أكثر منها أنصار المعارضين الذين كانوا لزموها لأسابيع منذ اليوم الأول للاعتصام.
5 ــــــ أضحى استحقاق رئاسة الجمهورية الهدف الجديد في المواجهة بين الطرفين. وتبعاً لما رمى إليه توجيه المذكرة إلى الأمم المتحدة، فإن حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، والغالبية النيابية التي تدعمها، ستتصرّف من الآن فصاعداً وفق قاعدة أن الحكومة الحالية مستمرة في الحكم حتى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كي تشرف على هذا الاستحقاق، وستكون كذلك على أهبة الاستعداد لأي تطور يمكن أن ينشأ بغية عرقلة انتخاب الرئيس الجديد، بحيث تمسي حكومة السنيورة الوارث الدستوري والشرعي لولاية الرئيس إميل لحود عند انتهائها منتصف ليل 24 تشرين الثاني المقبل، وانتقال صلاحياته الدستورية إليها وكالة عملاً بالمادة 62.
وتكمن أهمية هذا الموقف ــــــ بمعزل عما يمكن أن يقدم عليه رئيس الجمهورية قبل نهاية الولاية ــــــ في أن الحكومة، من خلال التوازن السياسي والدستوري القائم فيها، أي غالبية ثلثي مقاعدها لقوى 14 آذار، ستمسك بصلاحيات رئيس الدولة ودوره كاملين، الأمر الذي لم يكن ليتحقق لها في ظل حكومة أخرى كان مرجحاً أن تكون ثمرة تسوية سياسية بين قوى 14 آذار والمعارضة.
6 ــــــ أن قوى 14 آذار قدمت للمعارضة الأنموذج الأمثل لما ستقبل عليه في انتخابات رئاسة الجمهورية، وهو أنها ستستخدم النواب الـ70 الذين يؤلفون أكثريتها البرلمانية من أجل إجراء انتخابات الرئاسة في مكان يتعذّر على أنصار المعارضة عرقلة الوصول إليه، وانتخاب مرشح من صفوف تلك القوى رئيساً للجمهورية، على أن يصار إلى الحصول على اعتراف أميركي وأوروبي فوري بشرعيته، وفرض الرئيس الجديد أمراً واقعاً على المعارضة. وهكذا تكون الغالبية قد أحكمت السيطرة تماماً على المفاصل الرئيسية للحكم في لبنان.