باريس ــــ عثمان تزغارت
تحتل القضية الفلسطينية موقع الصدارة في موسم الصيف السينمائي الحالي في مختلف المدن في أوروبا. إذ تشهد الصالات الأوروبية، خلال الشهر الحالي إطلاق العروض العالمية لثلاثة أفلام فلسطينية بارزة، هي «الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب» لإيليا سليمان، و«عيد ميلاد ليلى» لرشيد مشهراوي، و«أميركا» لشيرين دعيبس. ويُضاف إليها فيلم رابع هو «يافا» للسينمائية التقدمية الإسرائيلية كيرن ييدايا التي تُعد ـــــ إلى جانب مواطنها آفي مغربي ـــــ من السينمائيين المعارضين للصهيونية. أمّا الفيلم الخامس في هذه الموجة، فهو «فلسطيني ـــــ إسرائيلي» مشترك، من النوع الذي قد يثير السجال في العالم العربي، ويحمل عنوان «عجمي» من إخراج إسكندر قبطي ويارون شانيفي «الزمن الباقي» (راجع المقال ص 17)، يستعرض صاحب «يد إلهية» في قالب تراجيكوميدي آسر، وقائع ستين سنة في حياة الشعب الفلسطيني منذ النكبة. وذلك عبر بورتريه عائلي مستوحى من السيرة البيوغرافية لثلاثة أجيال في عائلته (جدته ووالده وهو). وفضلاً عن قوة مضمونه السياسي، فالشريط الذي عُرض ضمن البرمجة الرسمية لمهرجان «كان» الأخير، لم يفز بأي من الجوائز، أبهر النقاد برؤيته الإخراجية المحبوكة، وروح الفكاهة الساخرة التي جعلته يرقى إلى مصافّ روائع «السينما السوداء». وقد قُورن بأعمال الأخوين غروشو وهاربو ماركس اللذين خرجت من معطفهما أجيال عدة من السينمائيين المشاكسين، من أمثال نجمي السينما المستقلة الأميركية، الأخوين جويل وإيتان كوين، والفنلندي آكي كوريسماكي...
في هذا العمل الجديد، يواصل صاحب «سجل اختفاء»، بأسلوبه الباروكي الفاقع، تسليط الضوء على مظالم الاحتلال، وما لحق بالشعب الفلسطيني من تعسف وقهر، لكن بعيداً عن أي خطابية. في مشهد سيبقى، بلا شك، في ذاكرة الفن السابع، يصوّر سليمان نفسه عالقاً في الضفة، حيث ذهب للتعزية بوفاة أحد أقاربه. وإذا بالجدار العنصري يحول دون عودته إلى بلدته في فلسطين التاريخية. فيلجأ إلى حيلة سينمائية تتمثل في اجتياز الجدار العازل عبر القفز بالعصا، كما في الألعاب الأولمبية!
فيلم رشيد مشهراوي عن الضفة التي تحوّلت إلى سجن كبير بسبب الحصار
ويُرتقب أن يكتمل هذا الحضور الفلسطيني في واجهة موسم الصيف السينمائي الأوروبي، ببدء العروض التجارية لفيلم رشيد مشهراوي الجديد «عيد ميلاد ليلى»، ويتقاسم بطولته الفنان الفلسطيني محمد بكري مع ابنه صالح الذي يُعد من أبرز اكتشافات السينما الفلسطينية في الأعوام الأخيرة («ملح هذا البحر»، «زيارة الفرقة»...)
فيلم مشهراوي الذي عُرض في مختلف المهرجانات العالمية، من تورنتو إلى مونس البلجيكية، ونال جوائز عدّة، يروي وقائع 24 ساعة في حياة قاضٍ فلسطيني تضطره ظروف العيش القاسية في رام الله إلى العمل سائق تاكسي. وعبر هذه الرحلة اليومية التي يتقلّب خلالها القاضي/ سائق التاكسي بين واجبات عمله، محاولاً استراق فسحة من الوقت لشراء هدية عيد ميلاد لابنته ليلى، يقدّم صاحب «حتى إشعار آخر» صوة جماعية فاقعة عن مفارقات الحياة الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحوّلت إلى سجن كبير، بسبب الحصار الإسرائيلي، في ظل العجز والفساد اللذين ينخران جسد السلطة الوطنية.
أمّا فيلم «يافا» (راجع الكادر) لكيرن ييدايا، فكان بمثابة توأم روحي لفيلم شيرين دعيبس. فقد عُرضا خلال اليوم ذاته في «كان» (قُدّم ضمن تظاهرة «نظرة ما»)، كما أن عروضهما التجارية على الصعيد الأوروبي جاءت متزامنة في منتصف هذا الشهر. مّا أفرز لعبة مرايا جعلت وسائل الإعلام الغربية تقدّم قراءات متوازية لهما، على اعتبار أنهما يقدّمان وجهتي نظر متكاملتين، من موقعين مختلفين، عن الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.