strong>بيار أبي صعب
  • نساء على هامش المدينة... في مهبّ الحياة


  • فيلمها الأول نزل إلى الصالات اللبنانية، وملصقاته تملأ شوارع باريس. في «سكّر بنات» يتجلّى أسلوب نادين لبكي: رصد اللحظات الإنسانية، وخلق المشاهد الجميلة والكادرات المتقنة. قد يبدو الفيلم «مهادناً»، يكتفي بوصف السائد... لكن لا ينبغي للنقد أن يعكّر الفرحة، فالسينما اللبنانية تحتفل هذه الأيام بولادة مخرجة!

    كي تعرف نادين لبكي عليك أن تبدأ من كليباتها. الفنانة الشابة التي نزل فيلمها الطويل إلى الصالات اللبنانيّة قبل أيام، لفتت الأنظار طوال السنوات الماضية، بأفلام إعلانية ومجموعة فيديو كليبات، من نانسي عجرم إلى يوري مرقدي، من دون أن ننسى كارول سماحة وماجدة الرومي... تلك الكليبات، بغض النظر عن القيمة الفنية لأغنياتها الخفيفة (أكثر الأوقات)، حققت «ثورة» في صناعة الترفيه الغارقة إجمالاً في السهولة وقلّة الذوق وشح المخيّلة، والخاضعة لقوانين السوق ومبادئه الاستهلاكيّة الصارمة.
    ومع كل أغنية جديدة، كانت تقوم بتصويرها (بإخراجها) لأحد نجوم اللحظة الغنائية العربية، كان يقال إن نادين حملت السينما إلى الفيديو كليب، وأغنت هذا «الفن الشعبي» الرائج الذي استوطن التلفزيونات والمخيلات والأذواق، مستعيرة من مراجع الفن السابع وتجاربه ومؤلفيه، قوالب تصويرية ومفردات إخراجيّة مختلفة ــــ كليشيهات كان يقول منتقدوها. كنا نقرأ ونسمع أن هذه الفنانة الذكيّة والجذابة «تحب السيما»، وأنّها مجرد عابرة سبيل في مجال الأغنيات المصوّرة التي اجتهدت في إعطائها بعداً جمالياً وثقافيّاً، وأن طموحها الحقيقي هو الإخراج. وها هي نادين لبكي (١٩٧٤) تحقق حلمها أخيراً، ليس فقط كمخرجة، بل كممثلة أيضاً (بعد إطلالة أولى في «بوسطة» فيليب عرقتنجي).
    خريجة «معهد الفنون السمعيّة البصريّة» في الجامعة اليسوعيّة (١٩٩٧) نفخت بالأمس روحاً جديدة، طازجة، في صحراء الأجساد المكشوفة والشفاه المنفوخة. وهذه الروح موجودة اليوم حكماً في «سكّر بنات»، باكورتها الروائيّة التي وصلت إلى بيروت، بعدما أثارت الاهتمام، الربيع الماضي، في «مهرجان كان» (أسبوعا المخرجين). تراها حملت هذه المرّة، الفيديو كليب إلى الشاشة الكبيرة؟
    اختارت لبكي أن تصنع فيلماً عن النساء (انطلاقاً من سيناريو كتبته مع رجلين: جهاد حجيلي ورودني الحداد). ومن خلال العالم النسائي الذي نسجته، تحكي سيرة حارة ومدينة ومرحلة وبلداً. هذا العالم النسائي الذي يقصي (يهمّش؟) الرجل، يختصره صالون تزيين Ah Belle (حرف الـ B انزلق من مكانه على الواجهة، لذا يمكن أن نقرأ elle، أي هي). صالون الكوافير هذا (والتجميل والعناية بجسد المرأة على الطريقة التقليدية، من هنا استعمال الـ«سكّر»)، هو «جناح الحريم» المعاصر: الملاذ الذي تستعيد فيه المرأة سلطتها وحريتها وحميميتها وصورتها الحقيقية، بعيداً عن عيون الرجال. وهنا تخلق مع قريناتها علاقات الألفة والتواطؤ وتبادل المشاكل والأسرار (ديكور سينتيا زهار، ملابس أختها كارولين لبكي، موسيقى خالد مزنّر زوج نادين منذ أول من أمس).
    صاحبة الصالون ليال الثلاثينية (نادين لبكي) التي ما زالت تعيش في كنف عائلتها وتحت الضغوط العاطفية والأخلاقية (متى تتزوّج؟ فالزواج هو النهاية السعيدة التي تحلم بها كل امرأة طبيعية عاقلة. أليس كذلك؟). تعاني بطلتنا من علاقتها السريّة برجل متزوّج لا نرى وجهه، بل نسمع زمّوره (بوق سيارته)، ونكتشف بيته وزوجته وطفلته، كما تعاني من ملاحقات يوسف (عادل كرم) دركي الحيّ على الطريقة الرحبانيّة، المتيم العاشق الذي يلحّ في طلبها... وهي ستلين في التعامل معه في النهاية!
    نساء كثيرات يغزلن حول ليال، من مختلف الأعمار والطوائف: نسرين (ياسمين المصري) تستعد للزواج من بسام، وقد عجلت في قرار الزواج «فضيحة» انفجرت بعد خناقة مع دركيّ (آخر) ضبطها تتحادث مع حبيبها في السيارة (!) وهنا سأكشف لكم سرّاً: نسرين التي تعمل مع ليال في الصالون، ليست عذراء... لكن عملية بسيطة ستحل المشكلة! ريما أيضاً (جوانا مكرزل) تعمل في الصالون، وهي أقرب إلى كليشيه السحاقية (كما يراه غير المثليين): مسترجلة، منطوية على نفسها مع عالمها وأسرارها وموسيقاها، ستعيش قصة حب أفلاطونية صامتة مع سهام (فاطمة صفا)، الزبونة القليلة الكلام التي «تتمرّد» في نهاية الفيلم، بأن تقرر قص شعرها الطويل، كما في قصة شهيرة لغادة السمّان («عذراء بيروت»؟). وتتردد على الصالون أيضاً الجارة جمال (جيزيل عوّاد)، المطلقة الهستيريّة التي تتخبط في سنّ اليأس، رافضة أن تكبر، ومصرة على الاشتراك في كل مواعيد الـ Casting التي تقام بحثاً عن مشاركات في أفلام إعلانية.
    ولعلّ جارة الصالون روز (سهام حداد)، أجمل شخصيات الفيلم. الخياطة الستينية تعيش بلا رجال، معتنية بأختها البكر، الفاقدة الصواب، ليلي (عزيزة سمعان). ليلي تلملم كل ما تصادفه على طريقها من أوراق يهيأ إليها أنّها رسائل الحبّ التي منعت من استلامها قبل سنوات بعيدة. إنها ضحيّة قصة أخرى لحب مجهض، استوحتها نادين من شخصية حقيقية يعرفها سكان حي الجميزة ورواده في بيروت. لكن لنعد إلى روز. فجأة يدق الحب على بابها. يأتيها في ملامح عجوز يوناني أنيق، بقبعة وعصا... يكتم حكايته، ويكتب رسائل بالفرنسية على واجهة محل الخياطة. لكنّ روز ستعتذر من هذا الحب المتأخر، وتعدل عن الموعد في اللحظات الأخيرة!
    يقول لنا الفيلم ما نعرفه: المرأة هي الأكثر هشاشة في هذا المجتمع التقليدي، والأكثر تعرضاً لشتّى أشكال «التأنيب» والحصار والملاحقة. عليها أن تنجح في حياتها، أن تحمل العبء الاقتصادي والحياتي، وأن تنسجم مع الصورة المطلوبة منها، وفي الآن نفسه أن تبحث لحياتها عن معنى، أن تجد لها ملاذاً وتعيش أوهامها، وتبحث عن الحبّ، فتضيع في الطريق إليه، المنثورة بالعراقيل والصعاب.
    ذاك هو خطاب «سكّر بنات». تصوّر لبكي عالمها بحنين، وتلذذ رومنسي. لا يهمها أن تسلط نظرة نقدية إلى السائد، أو حتى أن تخرج على بنية السرد الخطي، بقدر ما يهمها أن تبهرنا وتسحرنا. نساء على هامش المجتمع، قصص حب مجهضة، عذابات وأوهام وأحلام. حكايات عادية من الحياة اليومية في حارة متخيّلة، تتأرجح بين غصة وفرحة... الفيلم الذي تخيّم عليه خفة ظل أكيدة، وتلوّنه لحظات شاعريّة كثيفة، لا ينجح دائماً في تجاوز واقعيته السردية إلى رهان جمالي خاص، ولا في تحويل تلك الواقعيّة إلى خيار أسلوبي واضح ومتكامل وصريح.
    قصّة «سكّر بنات» التي ستعجب الجمهور في الشرق والغرب، تبقى نقطة الثقل في الفيلم، بعظتها الخفيّة الكامنة: من النسويّة (الرومنسية) إلى التعايش (السطحي) للطوائف. وقد تمّ «تلبيس» القصة بابتكارات مشهدية أو دراميّة، وتطعيمها بعناصر سينمائيّة «جميلة»: تقطيع المشاهد، ورسم الشخصيات، طريقة الإضاءة والتصوير والتوليف (مدير التصوير: إيف صحناوي). التمثيل نفسه، والتركيز على الغواية ــــ ولو بمنأى عن التكلّف ــــ غواية اللغة والموضوع والخطاب (اللائق سياسياً)، والجسد الحر كما تمثله ليال/ نادين لبكي. أليس هذا، باختصار، منطق الفيديو كليب؟
    تتذمر السينمائيّة الشابة بحنان متواطئ مع السائد ــــ أبعد ما يكون عن القطيعة الراديكاليّة ــــ من مجتمع تحكمه التقاليد القديمة وقوانين الجماعة، وقيود العائلة والدين والمذهب التي لا تعترف بالفرد. لكنّها تحوّل هذا المجتمع إلى مادة شيقة لاستعراضها: تصوّره بكثير من الرقة والعذوبة التسوويّة التي تعجب «الناس الكتير»، وتعطي للمشاهد الغربي، في الوقت نفسه، صورة «حضاريّة» عن لبنان، منارة الشرق حيث المرأة حرّة (نسبياً، بالمقارنة إلى «المحيط المتخلّف») رغم كل شيء!
    ويشكو الفيلم أحياناً من رمزيّة ثقيلة (إنسرت لقطة ماكينة الخياطة في مشهد عملية إعادة غشاء البكارة)، من مشاهد غير مقنعة أحياناً أخرى (الدركي يوسف في صالون الحلاقة)... فضلاً عن فولكلور التعددية المذهبية وحرية الأجساد النسائية اللذين يضمنان للفيلم صورة «شيك» يحبّها الغرب عن لبنان. والخوف أن تطغى كل أشكال الإغراء على النيات الطيبة للفيلم، كما حدث مع مسرحيّة لينا خوري «حكي نسوان» قبل عامين... إذ «انزلق» يومها الخطاب «الهادف»، النسوي والراديكالي، إلى لعبة استعراضية رخيصة قائمة على الإثارة والإغراء!
    قد لا يحيل «سكّر بنات» إلى فلليني (مدينة النساء) أو ألمودوفار (نساء على حافة الانهيار العصبي)، لكنّه ليس فيلماً سيئاً، أو فاشلاً... بل على العكس، تقدم نادين لبكي عملاً مسلياً وجذاباً ومؤثراً، سيحقق الرواج على الأرجح في لبنان وخارجه. مشكلته، ربّما، في حلاوته: إنّه «سكّر زيادة»! القصة آسرة، والمشاهد مصوّرة بدينامية وخفة ظل، والتمثيل عفوي... لكن ينقص شيء ما كي تكتمل المعادلة الكيميائيّة: بصمات المخرجة! وربما كان كثيراً أن نطلب حضورها بوضوح منذ الفيلم الأوّل.

    حالياً في صالات أمبير
    التوزيع في البلاد العربيّة: شركة صبّاح للإعلام
    [email protected]