في خطّ تراثها الرياديّ، أقامت جامعة «دار الكلمة» في فلسطين بالتعاون مع «المنتدى الأكاديميّ المسيحيّ للمواطنة في العالم العربيّ» لقاءً تشاورياً أُقيم هذا الشهر في مدينة لارناكا في جزيرة قبرص حول موضوع حيويّ ألا هو أثر التحوّلات الرقميّة في التكنولوجيا على الدين والثقافة والتعليم العاليّ. شارك في اللقاء 36 فنّاناً وأكاديميّاً من عدد من الدول العربيّة، فكان اللقاء كما أرادته الجامعة والمنتدى مجالاً للحوارِ المتّقد والتفكير المتعدّد التخصّصات حول وقع التحوّلات الرقميّة على المجال الدينيّ والثقافيّ والتعليم العالي بشكلٍ يتجاوز الأكاديميّة الضيّقة، ويستشرف التطبيق الملموس والخبرات العمليّة. بالإضافة إلى الجلستين الافتتاحيّة والختاميّة، تخلّلت اللقاء ثلاث جلسات عامّة كلّ واحدة مخصّصة لمحور من المحاور الثلاثة. في كلّ محور تُرك الوقت الأوسع للنقاش المعمّق، فجاءت مداخلات المشاركين في كلّ محور على شكل كلمات مركّزة جدّاً (5 دقائق) تمّ الالتزام بها بحيث تُرك الوقت الأوسع (حوالي الساعتين في كلّ محور) لنقاش المداخلات وطرح الأسئلة والإدلاء بالحجة والحجة المضادة، فأتت النقاشات غنيّة وشيّقة في آن، كما خطّطت لها اللجنة المشرفة على اللقاء. الشقّ الآخر من اللقاء، جاء على شكل اجتماعات على حدة للمشاركين في كلّ محور، للتفكير بتحدّيات، وفرص التحوّلات الرقميّة، وأثرها على موضوع ذاك المحور: الدين أو الثقافة أو التعليم العالي.
تراوحت المداخلات والنقاشات في اللقاء التشاوريّ بين الداعي إلى تبنّي التحوّلات الرقميّة، وبين الشارح لإيجابيّات وفوائد استعمالاتها، وبين المحذّر من بعض سلبيّاتها. وكان للذكاء الاصطناعي حصّته من النقاش والحماسة، لكن من الملاحظ أنّنا لم نقع على نظرة نقديّة حول الذكاء الاصطناعي إلّا من خلال مداخلة يتيمة، بينما أتت بقية المداخلات في الموضوع لتركّز حصراً على فوائده. مع ذلك، فإنّ النقاشات جاءت على مستوى عالٍ من التحليل والتحدّي الفكري، فأضفت عمقاً للحوار وسمحت بتقصّي أبعاد جديدة لعلاقة التحوّلات الرقميّة بالثقافة والدين. أمّا أثر تلك التحوّلات على التعليم العالي، فبدا أنّه يحتاج إلى أبحاث أكثر دقّة وتحديداً بشكل يتجاوز العموميّات، وإن حملت بعض المداخلات نقداً لبطء التحوّلات الأكاديميّة في تبنّي الجديد فقد بدا لنا أنّ هذا النقد لا يأخذ في الحسبان الجدّية الضروريّة للتمحيص في أدوات المعرفة قبل تبنّيها، وأهمّية الوقت للتمييز بين «الموضة» والثابت في التكنولوجيا، وهو ما ذكره بعض المشاركين بوضوح. وكان لقضايا المنطقة من تدمير الحروب للمجتمعات وغياب الحرّيات وتهميش المرأة والقمع الدينيّ وكذلك السياسيّ حضورها في النقاشات، ولم تكن بعيدة عن التحوّلات الرقميّة الحديثة نسبيّاً كوسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمت وتُستخدم في التطرّق إلى هذه القضايا.
ربّما كان الأهمّ في الحوار هو بروز الحاجة إلى اعتماد مواقف أكثر نقديّة تجاه الأدوات الرقميّة، وهو أكثر ما بدا في مداخلة مخصّصة للذكاء الاصطناعي والاستعمار الرقميّ، وقد أتاحت تلك المداخلة التشديد على مسؤوليّة الباحثين في الذكاء الاصطناعيّ كما المستخدمين لمنتجاته، التفكير في أثر الذكاء الاصطناعي على الحياة البشريّة. وبهذا أضافت المداخلة بُعداً جديداً على عمليّة التفكّر خلال اللقاء، ألا وهو البعد الأخلاقيّ النقديّ تجاه التحوّلات الرقميّة، وهو ما انعكس في التوصيات الختاميّة التي ذكّرت بضرورة البحث في أخلاقيّات العلوم. وبالفعل، فإنّ الموقف النقدي من التكنولوجيا ضرورة إنسانيّة للبحث في آثارها بشكل هادئ، يتجنّب الرفض الخائف شبه الأصوليّ لكلّ جديد، كما والحماسة المتبنّية من دون تفكّر ضروريّ بسلبيّات يمكن مواجهتها بخطوات لقياس تلك السلبيّات وتخفيف أثرها إمّا بقوانين أو بخطوات بحثيّة جديدة. وإن كان من المستحيل توقّع كلّ المنزلقات والمخاطر المتعلّقة بابتكار علميّ، إلّا أنّ بعض التوقّعات واضحة اليوم في ما يخصّ الذكاء الاصطناعيّ، ولكنّها مغيّبة عادة عن النقاش في وسائل الإعلام.
تعدّدت التوصيّات الختاميّة للقاء وتمحورت حول ضرورة فهم علميّ واضح لماهيّة التحوّلات الرقميّة، خصوصاً أنّ النقاشات كشفت برأينا عدم وضوح بعض التكنولوجيّات المطروحة (مثلاً، التحديد الدقيق لماهيّة «الذكاء» الاصطناعي، وفهم لماهيّة سلسلة الكتل أو blockchain). هذا الوضوح رأته التوصيات ضروريّاً لكي يتمّ التفكير السليم في إمكانات التكنولوجيا الرقميّة الواقعيّة، وحدود تلك الإمكانات، والمخاطر المحيطة باستعمالها. ونعتقد أنّ تلك التوصيّة هي توصية أساس لأيّ عمل في هذا المجال، إذ بدا لنا أنّ بعض المشاركين لم يذهب في فهمه للذكاء الاصطناعي أبعد من «الماركتينغ» والشعارات التي نسمعها ونقرأها وتمتهنها الشركات المنتجة للتكنولوجيا للترويج لابتكاراتها، كشعارات التحرّر والديموقراطيّة وما شابه، التي يُقال إنّها ستنتج عن تلك التكنولوجيا.
الأمر الآخر، وربّما الأهمّ، الذي نودّ أن نشير إليه هو أنّ ملاحظتنا الشخصيّة لغياب الحسّ النقديّ تجاه التكنولوجيا هو نتيجة طبيعيّة لغياب مواد دراسيّة في الفلسفة وطرق صناعة السياسات العامّة (public policy) وأخلاقيّات العلوم، عن مناهج التعليم العالي للعلوم التي هي خارج تلك الاختصاصات؛ إذ لا يتعرّض عادة طلّاب اختصاصات في التكنولوجيا والتربية أو الفنّ، مثلاً، للبحث النقديّ الفلسفيّ أو لدراسة طرق صنع السياسات العامّة. وقد بدا لكاتب هذه السطور أنّ المشاركات والمشاركين في محور الدين – الذين يتعرّضون للفلسفة في دراستهم وعملهم - كانوا أكثر نقداً للتحوّل الرقميّ من بقية المشاركين، وكذلك كان المشاركون الذين عملوا سابقاً في أبحاث السياسات الصحّية، أو تعلّموا النظريّة النقديّة لمدرسة فرانكفورت، أو حتّى درسوا الاقتصاد السياسيّ.
كان للذكاء الاصطناعي حصّته من النقاش والحماسة

إن هذا الغياب الذي نشير إليه في تلقيح العلوم المختلفة بالفلسفة والنظريّات النقديّة أحوج ما تكون إليه برامج التعليم العالي في منطقتنا، بحيث تتوسّع النظرة إلى العلوم والفنون من سبيل للخروج بشهادة تتيح الكسب ليُضاف إليها بُعد المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه الوسيلة التي نستخدمها للكسب وأثر تلك الوسيلة على الذات وعلى المجتمع.
يُسجَّل للقسّ متري الراهب رئيس جامعة «دار الكلمة» امتلاكه لرؤية ثاقبة في التحوّلات الاجتماعيّة التي يمكن لها أن تؤثّر ليس فقط في التعليم العالي – وهو جلّ عمله كرئيس جامعة – وإنّما أيضاً في المقاربات الفنّية والعلميّة لمشكلات العصر، ولم يفت الراهب، صاحب التاريخ الطويل في مواجهة إسرائيل وفضح جرائمها بحقّ الشعب الفلسطينيّ، تلقّف الإشارة إلى الاستعمار في موضوع الذكاء الاصطناعي، ليشير بدوره إلى استخدام الاحتلال للتكنولوجيا لمزيد من التنكيل بالشعب الفلسطينيّ، وليذكّر بالقضيّة الفلسطينيّة مراراً. وقد أبدت اللجنة المشرفة على تنظيم وإدارة اللقاء التي قادتها الدكتورة باميلا شرابيّة قدرة فائقة في إدارة اللقاء بسلاسة وتنظيم بحيث تمّ الالتزام بالتواقيت المنشورة مسبقاً، مع إعطاء المشاركين في المحاور الثلاثة استقلاليّة جدّية في إدارة جلساتهم، ونقاشاتهم، وتوصياتهم.
ينبغي أن نشير إلى أنّه في الجلسة الختاميّة التي تمّ فيها عرضُ ونقاشُ الفرصِ التي تقدّمها التكنولوجيا الرقميّة وتحدّياتها، كما وتوصياتِ المشاركين، أعلن المنظّمون أنّ موضوع السنة المقبلة من اللقاء السنويّ لـ «المنتدى الأكاديميّ المسيحيّ للمواطنة في العالم العربيّ» سيكون لنقاش المواقف المختلفة تجاه الجسد الإنسانيّ. موضوع شائك وحسّاس وشيّق يعِدُ بلقاء غنيّ وحيويّ برعاية جامعة «دار الكلمة» الفلسطينيّة. من فلسطين كلّ الجدّة والحيويّة للعالم العربيّ.
لا بدّ لنا من الملاحظة بأنّ عقد المؤتمر في قبرص وليس في بيروت أو عاصمة عربيّة أخرى، يشير بشكل واضح إلى العوائق التي تضعها بعض الدول على سفر الفلسطينيّين إليها (لبنان مثلًا) وإلى غياب الحرّية الضروريّة لكلّ نقاش يريد أن يخترق كثافة العتاقة ليلد فكراً جديداً متعارضاً بالضرورة مع المتعارف عليه، وضروريّاً كشمس لكي نحيا كبشر.