يتخذ فعل مواكبة المُعاصر في الخيال الأدبي، قطيعةً مع التراث العربي كأنّ آلية الكتابة ابنة اللحظة الراهنة تُفعّل بإلقاء التراث خلف ظهر المرجعية في الأدب. في كتابه الجديد «بنات آوى والحروف المفقودة» (دار الكرمة ـ القاهرة)، يستعيد هيثم الورداني، العلاقة بالتراث الحكائي العربي وكيف نشأ الخيال لضبط صمت التاريخ واستنطاق الحقيقة المُجهّلة مع منبوذيه. افتتاحية الورداني، تُشير إلى محاولة لصمّ قطيعة طويلة حدثت، جاءت ضرورتها من لحظة صمت بشري عالمي، مخنوق بالواقع والوباء. تتوقف يد العامل بعد أن يجد يد ابن المقفّع، ثم يُشير عليه صديقه أن يلصق اليد المعثور عليها باليد البليدة، وبذلك يستعيدُ العامل حيويته موقتاً. خلال جدل «كليلة ودمنة»، يسرد الأخوان حكايات لها طابع توعوي وحكيم، أبطالها حيوانات أيضاً، تخضع لأسلوب «المُثل» في التراث العربي، إذ لم يكن ميلاد الخيال قد تجاوز الحكمة الضرورية في المُنجز الشِعري.
«كليلة ودمنة» ـ منمنمة فارسية

يربط هيثم الورداني بين ظهور القصة الخيالية في التراث العربي، كنموذج لنشأة الخيال من خلال الترجمة، وبين الوضع السياسي الراهن وقتها. ترجم ابن المقفّع «كليلة ودمنة» إلى العربية، وهو من أصل فارسي، ولد في البصرة في العراق، خلال أواخر الدولة الأموية التي كانت تنبذ العجم. وخلال أوائل العصر العبّاسي، ظهر نموذج آخر من القمع السلطوي، على مستوى سيادة اللغة العربية والقبلية الحاكمة. خلال ذلك، كان ابن المقفّع يعملُ كاتباً لأحد أعمام أبو جعفر المنصور، الذي انقلب على أعمامه وانفرد بالسلطة بعد تولّيه خلفاً لأبي العبّاس.
هناك ربط بين ترجمة ابن المقفّع لـ «كليلة ودمنة»، وبين الاحتدام السياسي الذي عاصره، إذ يتناول هيثم فعل الترجمة في هذه الحالة، على أنّه نشاط للتعبير عن «القلق»، إحالة اللغة غير المفهومة إلى أخرى مفهومة من خلال التأويل. لا يتوقف نشاط الترجمة في هذه الحالة، عند النقل، لأن الأمر بشكل مركزي يعود إلى فكرة أكثر أوليّة، هي اللحظة المُناسبة التي يتدخّل فيها الخيال لضبط التاريخ.
في قراءة سياسية، يتكوّن الصراع في «كليلة ودمنة» من جدال بين طرفين مركزيين، يشكّله طرف مُستضعف «الحيوان»، وصاحب السُلطة «الأسد»، وما بينهما تتشكل التجربة. من هنا، يُشير هيثم، إلى أنّه عند نشوئه، مثّل الخيال وجهاً آخر للحقيقة، لا ينفصل عنها، لكنه يراوغها للهروب من تبعات الدخول في ما يحظّره الحراك السلطوي. يأتي الأمر مثل نداء تاريخي، واجب لا بديل عنه، كي تُكمل اللحظة التاريخية تشكّلها بالرأي الآخر، الذي يكون مقموعاً في الغالب.
حتى مع الحذر، والاختباء وراء الخيال، لم يسلم ابن المقفّع من سندان السلطة، إذ يذكر طه حسين في كتاب «من حديث الشعر والنثر» أنّ ابن المقفّع قُتل بتهمة «الزندقة»، على يد أبي جعفر المنصور. كان اتهام الزندقة دارجاً آنذاك، يُمكن أن يطال كل من يخرج عن عباءة السلطان، غير أن ابن المقفّع من أصل فارسي، وقد أسلم بعد ذلك، وكان إسلام العجم لا يعفيهم من احتمالات القتل، حتى بعد إسلامهم.
إذاً، نشأ الخيال العربي خلال لحظة فارقة، هو مقاومة السلطة ومراوغتها، وتأتّى ذلك من ضرورة استدعاها التاريخ. كي يكتمل فعل «المراوغة»، من يُمكن أن يكونَ بديلاً؟ من اللسان الذي يُمكنه تفعيلُ الخيال بدلاً من الإنسان صاحب التوثيق والحكي المُباشر؟

عواء له صدى
يشغلُ حيوان «ابن آوى» ذيل ترتيب مقام الحيوانات وحضورها التاريخي. فهي ـــ أي بنات آوى ــــ فصيلة من آكلة «الجيف/ جثث الحيوانات النتنة» تسير وراء خُطى الأسود والسباع، تأكل ما يتبقى من فرائسها. لا يكثر عويل ابن آوى إلا في الليل، حين ينام البشر والحيوان وتستكين الطبيعة. يأتي ابن آوى من مساحة انزواء أبعد من ذلك. ففي «لسان العرب»، تُعرف كلمة «حيوان» في أحد معانيها، أنّها الحياة المُجرّدة من البداية والنهاية، التي لا تحمل سوى التكرار. الحيوان هنا مُتجاوز لاسم وظيفي لصنف حي، هو طريقة تمنحها اللغة للنزع من التاريخ.
الحيّز الذي تُتيح فيه الخرافة للعجماوات أن تتكلم، هو ميلاد جديد للغة، ولمن يتحدث بها أيضاً، حتى للمفردات نفسها التي تختبر قدرتها على كشف التاريخ، بالقفز والوثب الحيواني المرح، وبعوائها المُخيف والمُحذّر، وبالتالي يستحيل موت قطب من الحقيقة، إلى حياة جديدة، هو ذاته إعادة حياة الحيوان مرة أخرى، لينطق، وعلى مستوى التأثير، تكون القراءة الجديدة للتاريخ خلّاقة، لأنها تحيا من خلال مراوغة السلطة، القُطب الأكبر الحاكم في إباحة الحكي، وكذلك في منعه.


حين نستعيدُ «كليلة ودمنة» في هذا السياق، ونضع مُقاربات السلطة بين بنات آوى والأسد، نرى أن المشهد المؤسس للخرافة هو ذلك اللقاء، كما يشيرُ هيثم الورداني، بين صاحب المعرفة وصاحب السلطة. ولأن تبادل المناوشات بين الطرفين هنا، لا يُمكن أن يؤول إلى نهاية، فإن هذه المناوشات تحتملُ داخل إجاباتها أسئلة مُفخّخة، حتى يظل التاريخ وحضور الخيال فيه باقيين، ببقاء ذلك الصراع.
لحظة الخطر، في ميلاد الخيال بلسان مُغاير، تمتدُ في أكثر من سياق بعد ذلك. ففي تصديره لنسخة «دار المعارف» من حكاية «كليلة ودمنة»، يُشير طه حسين إلى ظهور الحكاية في أيام صعبة ـــ الحرب العالمية الثانية ـــــ بسبب الحرب وآثامها، حيث ريح الموت والحزن العميق الذي لا يُعرف له أول ولا آخر.
ما بين الصورة المُعاصرة للخيال حالياً، وبين نشوء الخيال في التراث العربي، خاض اللسان الحكّاء رحلةً طويلة، مرّت بأنساق كُبرى، نشأت وتم تجاوزها، مرّ بالمُنتج السينمائي الأميركي الخارق، لكنه ينتهي الآن إلى استعادة البطل المُنهزم، ابن اللحظة الراهنة ومُتطلّباتها. ولأن حيوان ابن آوى، كان عليه أن يعود، من أسفل التراتبية، فقد أُعيد إنتاجه في صُور أخرى.
حكى الكلب في «نداء البراري» لجاك لندن عن مُختلف الولايات الأميركية مطلع القرن العشرين، وما بين الهزل والجد، تسلّم الحيوان نفسه إعادة إنتاج مُقاربات دواخل المُجتمع المصري في رواية «الشطّار». وفي سياق بعيد نسبياً، خاض الكلب عالم البشر، قراءة تركيباته الشعورية وعكسها كصوت روائي في «تمبكتو» لبول أوستر.
يذكر طه حسين في كتاب «من حديث الشعر والنثر» أنّ ابن المقفّع قُتل بتهمة «الزندقة»


في السينما، ظهر الصوت المُستعار، ولو من خلال لمحة لها أساس واقعي في فيلم The elephant man، حين استعاد ديفيد لينش حكاية «جوزيف ميرك» الذي وُلد مطلع القرن التاسع عشر، بوجه مُشوّه، ومن خلاله قدّم لينش مُحالة من خصوصيتها التاريخية إلى العام، وكيف يُمكن للوجه القبيح، والصوت القبيح، الحيواني، أن يُطلعنا على مشاعر كونية.
في فيلم EO الصادر في عام 2022، كان الحمار لسانه المشقوق، الصامت، والحكّاء بصرياً، إذ يتلاشى صراع السلطة وموضع الطرفين، وما ينتج من حكاية حول نزاعهما. تفردُ الصورة مفاهيم الاغتراب وآليات تفعيل الحداثة، خلال حُزن حيواني معني بالبشر.