لم يعد يمكن الاستمرار بإعلام الفتنة والحرب الأهلية. أتى أول من أمس الأربعاء، ليجزم بأنّ طبول الحرب إن قُرعت، فستصدر أصداؤها عن أبواق الإعلام بأكثريته المطلقة، مهيمناً كان أم فئويّاً. صحيح أنّ بثّ الفتنة والرعب في نفوس الناس ليس جديداً على عدد كبير من الوسائل الإعلامية اللبنانية، غير أنّ المياه وصلت إلى فم الكوب، ولم يعد يحتمل أيّ إضافة غير بتلة ورد، وإلّا فانفجار الحرب.لو قيلت هذه الكلمات قبل سنتَين فقط، لاعتُبر الأمر تهويلاً. لكنّ الحوادث المتكرّرة في الآونة الأخيرة والتعاطي الإعلامي معها، يبدّدان الشكوك. هذا إعلام حربي بنزعة أهلية. لا يكترث بسوى للمال، بما أنّه أساساً يتبع لسلطة رأس المال وينفّذ أجنداتها، فيما الدولة تغيب بإعلامها وأجهزتها التي تفضّل ملاحقة صحافيّين فرديّين لفضحهم موبقاتها على وضع قانون عصري ينظّم مهنة الإعلام ويحاسب المحرّضين على الفتنة والاقتتال الداخلي، وهو ما بحّ صوت كثر وهم يطالبون بإقراره عبر السنوات.
هكذا، تحوّل انقلاب شاحنة في الكحّالة، وهو أمر يحصل بشكل متكرّر هناك وعلى سائر الطرقات اللبنانية المتردّية ليكاد يكون عاديّاً، إلى حفلة «طبل وزمر» فتنوية، والافتتاحية كانت من توقيع MTV. خبر واحد من القناة كان كفيلاً بتجمهر بعض سكّان المنطقة حول الشاحنة تمهيداً للحادثة، ولم تنسَ وسمه بالـ«خاصّ»، فكتبت «خاص mtv: وقوع شاحنة عند كوع الكحالة والمعلومات تتحدّث عن أنها تابعة لحزب الله وفرض طوق أمني في المكان».

محمد نهاد علم الدين

سرعان ما انكبّت قناة المرّ على نقل مجريات الحادثة بعد حصول إطلاق النار، فذهبت نحو النقل المباشر وواكبت المتجمّعين، عارضةً عضلاتها أمامهم على أنّها من صفّهم ومؤيّدةً إيّاهم في مطلبهم منع رفع الشاحنة قبل إلقائهم نظرة على محتوياتها. تتالت الأخبار العاجلة ذات الطابع التحريضي والطائفي والمناطقي، وبدأت القناة أخذ الاتّصالات واستضافة كلّ ما هنالك من مسؤولين قوّاتيّين وكتائبيّين وأيتام 14 آذار لإلقاء المسؤولية على المقاومة وتصويرها على أنّها دخلت «منطقة مسيحية» عمداً لترويعها، لا كأنّ الشاحنة انقلبت على طريق دولية أساسية في البلد. وصوّرت mtv الأمر على أنّ مرافقي الشاحنة أطلقوا النار أوّلاً، ما أدّى إلى مقتل فادي بجّاني، رغم الفيديوات التي انتشرت وتُظهر أنّه هو مَن أطلق النار أوّلاً. الأنكى أنّ القناة وضيوفها أزعجهم نقل سلاح موضّب مع مواكبة أمنية ومعروف على مَن سيتمّ تصويبه (كيان العدوّ)، ولم يرفّ لهم جفن إزاء وجود سلاح متفلّت جاهز للقتل بين البيوت، بل اعتبروه شرعيّاً من أجل «الدفاع عن النفس»! والقناة نفسها كانت في وقت سابق من اليوم نفسه تناولت حادثة عين إبل مشبّهةً إلياس الحصروني بلقمان سليم، مع كلّ ما يحمل ذلك من اتّهامات سياسية باطنية، وحتى نشرت مقطعاً للمنجّم ميشال حايك ادّعت فيه أنّه تنبّأ بالجريمة التي أوقعت بالحصروني!
على ضفة LBCI، لم يختلف الأمر عن mtv في البداية سوى في اللغة الموضوعية ظاهريّاً لكن التي تحمل رسائل باطنية. إلّا أنّ الأمر لم يستمرّ، فنقلت القناة وجهتَي نظر الجانبَين ودعت إلى التهدئة وانتظار التحقيقات، وكذلك فعلت «الجديد». لكنّ الأخيرة حذت حذو mtv في تقديم معلومات مجّانية حول محتويات الشاحنة للعدوّ (الذي تابع إعلامه ما حصل بالمناسبة)، فنشرت على صفحاتها «معلومات» حول نوع الذخيرة! كذلك لمّحت «الجديد» في تقرير ليلي لها إلى دور مفترض لـ«حزب الله» في مقتل إلياس الحصروني. أمّا otv التي تعتبر أنّ الضحية بجّاني من صفوفها نظراً إلى قربه من «التيار» وكون ابنته تعمل مع القناة، فحرصت على الوقوف إلى جانب رافضي رفع الشاحنة، من دون أن تعتمد في الوقت نفسه لغة هجومية على «حزب الله»، فحرصت على إظهار تعاطفها مع بجّاني وعائلته في مقابل عدم إظهاره مع أحمد قصاص الذي سقط برصاص بجّاني (استناداً إلى المقاطع التي انتشرت). وفيما نقلت «الجديد» مراسم تشييع القصاص، اكتفت otv بتمرير الخبر في ثلاثين ثانية، مقابل إرسال مُراسل لها لمواكبة تشييع بجّاني. وكان ظاهراً التفلّت على الهواء الأربعاء والخميس، بحيث تُرك لبعض الأشخاص الكلام بلغة عنيفة وتهديدية وتحريضية، من دون وقف البثّ أو على الأقل ابتعاد المراسلين عنهم.
اشتغلت وسائل إعلام خليجية على تضخيم دور «حزب الله» واتّهامه بالسيطرة على البلد


«المنار» أكملت برمجتها المعتادة مساء الأربعاء، ولم تتناول الحادثة قبل نشرتها الليلية حيث بثّت تقريراً حول الحادثة ونقلت بيان «حزب الله» وتصريح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، معتمدةً وصف «الميليشيات» الذي اعتمده الحزب لقاتلي القصاص، مع تأكيدها رفض الفتنة. وفيما اشتغلت وسائل إعلام خليجية عدّة على تضخيم دور «حزب الله» بشتّى الوسائل المتاحة واتّهامه بالسيطرة على البلد، بعد هدوء ظرفي نتج عن الاتّفاق السعودي-الإيراني، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بـ«ميني حرب أهلية». تراشق الطرفان الاتّهامات والتخوين إلى حدّ نزع حقّ الوجود عن بعضهما البعض! الصوت الأعلى كان لدعاة الفدرالية، ما يرجّح فرضية ارتياحهم لصبّ الزيت على النار تبريراً لدعوتهم هذه. في المقابل، لم يكن بعض مؤيّدي المقاومة أفضل حالاً، فبدلاً من تبديد الهواجس حول نيّة المقاومة «السيطرة على البلد» كما يتّهمها خصومها، راحوا يتكلّمون بلغة فوقية استعلائية لا تشبه المقاومة بشيء وتعطي خصومها مادّةً تساعد في مهاجمتها. لكن كان هناك في المقابل عقلاء. نشر بعضهم صوراً لأحمد القصاص إلى جانب مقدّسات مسيحية في معلولا السورية تأكيداً على احترامه للأديان جميعها وقطعاً للطريق أمام إعطاء الحادثة بُعداً طائفيّاً زوراً وتأكيداً على أنّ المقاومة لا تفرّق بين الطوائف في دفاعها عن البلد في وجه العدوّ الذي لطالما استهدف اللبنانيّين بأطيافهم كافّة. كما كان هناك مَن لم ينجرّوا إلى أيّ طرف، واكتفوا برفض الفتنة بين اللبنانيّين.
في كلّ الأحوال، لا يجب أن يمرّ ما بُثّ من تحريض وأحقاد مرور الكرام، خصوصاً أنّه يخالف بشكل فاضح قانون المطبوعات. الأمر لا يتعلّق بالحرّيات الصحافية، بل ببثّ سرديات هدفها الأوحد التسبّب في حرب أهلية. وكلّما غابت المحاسبة تمادت بعض الوسائل الإعلامية في هذا التحريض، ما يعني تعزيز فرص الحرب الأهلية. لذا لم يعد مقبولاً شراء الوقت والتريّث والمماطلة، فإمّا الالتزام بالقوانين درءاً للفتنة، أو «العوض بسلامتكم».