باتت كلمة «خسارة» مرادفة لوفاة أحد المبدعين أو المناضلين «القدامى». مع رحيل هؤلاء، بدأت أدرك اليوم معنى هذه الكلمة العفوية التي تستخدم في وسائل التواصل الاجتماعي كثيراً. كلّما رحل أحد القدماء الذين عايشوا الثورة الفلسطينية في نقائها، أشعر أنّنا اقتربنا من ختام ما. فهؤلاء كانوا طهرانيين، كان واحدهم ينتمي إلى النضال الفلسطيني بإيمان مطلق بأنه ذاهب إلى التحرير. كانوا جميعاً ضمن مشروع وطني فلسطيني، اختلفوا واتفقوا عليه، لكنّهم جميعاً لم يختلفوا على فلسطين، ولم يختلفوا أن الحرية المنشودة طريقها مرسوم باللحن والريشة والقلم كما البندقية، وكل الوسائل متاحة من أجل النضال. ومن أجل الحلم (فلسطين)، خرجت «فرقة أغاني العاشقين» من مخيمات الشتات، تكامل فيها الفلسطيني مع السوري مع اللبناني، لحّنوا وكتبوا وغنّوا ورقصوا. جمّعوا الشعب حولهم، ونادوا «اشهد يا عالم علينا وع بيروت»، وقبلها «والله لزرعك بالدار»، وها نحن اليوم، وفي الغد، سنبقى نمشي خلف جنازة الشهداء الثلاثة «من سجن عكا».
هذه الأغاني وغيرها، كان فيها الصوت الأرض أو «الصوت الرعد» صوت حسين منذر الذي غادرنا أول من أمس في دمشق التي عاش فيها، وتلوّنت لكنته بلكنتها وهو المولود في بعلبك، ويحمل الجنسية اللبنانية، وقلّة من يعرفون أنّه ليس فلسطينياً. منذر وميزر مارديني والفتيات من عائلة أبو الشامات الدمشقية وغيرهم في هذه الفرقة، كانوا فلسطينيين بهوية نضالية، ستمتد معنا حتى الأبد. فهم قصة فلسطين الحقيقية، قصة فلسطين التي ينتمي إليها الأحرار من كل مكان، توحّدهم هوية فلسطين، والإيمان بحريتها. كانوا عاشقين على الدوام، بلا شعارات، ولا خيارات «مؤدلجة»، ولا دروب لا تؤدي إلى فلسطين. من غنوا في «فرقة أغاني العاشقين» كانوا مثل مناضلي «الجيش الأحمر الياباني» ومثل جورج عبدالله ومثل كارلوس. هؤلاء شكلوا مع الوقت مفهوم «الأمة الفلسطينية» التي ينتمي إليها كل من يؤمن بفلسطين. لا فرق بينهم على الإطلاق، الفرق الوحيد الذي يفرّق هذه المجموعة عن غيرها «تقوى فلسطين»، وهذه «التقوى» لا تكون إلا بالامتداد. ففرقة كـ «العاشقين» عاشت وتعيش وستعيش حتى يلتقي الجسد الفلسطيني ببقيته في فلسطين.
حين يرحل هؤلاء القدامى، أخاف على المستقبل من المستقبل، أخاف أن لا يأتي مثلهم. أن لا نتذكر بعدهم صوت محمد الهباش حين يلقي القصيدة قبل الأغنية. وأن لا نتذكر كاميرا الشهداء هاني جوهرية ومطيع وعمر المكسورة، وأن لا نتذكر كوزو ورفاقه، وأن نبقى أسرى الأسماء المعروفة التي كرّسها الإعلام على أهميتها، ووضعها وحيدة في ذاكرتنا المثقوبة والمبتورة.
حين يرحل هؤلاء القدامى، نحتاج أن نلتفت إلى الماضي قليلاً، لنحصي كم تبقّى من هؤلاء، كي نكرمهم، ونعلنهم على الرايات رايات لقادمنا لئلا ننسى حقيقتنا، لئلا نغرق في تفاهمات السياسة وخطابات البلاغات اللغوية والصرفية، والمدائح والضحكات بين المنقسمين على هوامش اجتماعات «الوحدة الوطنية».
رحل حسين منذر، ورحل قبله حسين نازك، وقبلهما رحل أحمد دحبور ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وإميل حبيبي وغسان كنفاني وإدوارد سعيد وسعد الله ونوس وممدوح عدوان ومحمد الماغوط و«ناس الغيوان» وغيرهم. وهؤلاء ليسوا «ذاكرة الماضي» لو ندرك. هؤلاء «ذاكرة المستقبل» و«ذاكرة الحاضر». هؤلاء حكايتنا التي علينا أن نحكيها إن تذكّرنا أن نحكي سيرة فلسطين وسيرة الشهداء الذين ارتقوا ويمشون في الطريق المؤدية إليها، وقد وصلوا جميعاً إلى البلاد، وأخشى أن يطول انتظارهم هناك وحدهم. ووحدهم إن لم نستدرك أنفسنا، سيموتون ويستشهدون مرة أخرى، هذه المرة لأنهم ينتظرون.