كان جون لو كاريه (ديفيد جون مور كورنويل 1931 ـــــــ 2020) أستاذاً وديبلوماسياً وجاسوساً (الأخبار 15/12/2020)، لكنه قبل أي شيء أحد أشهر كُتّاب أدب الجاسوسية في العالم. رواياته عن العميل جورج سمايلي مثل «الجاسوس الذي جاء من البرد»، و«مُصلح خياط جندي جاسوس»، و«شعب سمايلي»، و«إرث الجواسيس» وغيرها من الكتب مثل «البيت الروسي»، و«خياط بانامي»، و«رجلنا في هافانا»... بيعت بعشرات الملايين من النسخ، وتحوّل بعضها إلى مسلسلات وأفلام شهيرة. ومع ذلك، كونه من أعظم الروائيين في فترة ما بعد الحرب، وأحد الكُتّاب الأكثر شعبية في العالم، رفض لو كاريه جميع الأوسمة، وأجرى مقابلات صحافية قليلة جداً، وظلت حياته لغزاً دوماً، على الأقل حتى العرض الأول لـ «نفق الحمام» (2023)، الوثائقي الذي يحكي فيه لو كاريه بشكل لم يسبق له مثيل أمام كاميرا صديقه المخرج الأميركي إيرول موريس.«نفق الحمام» حلم متكرّر ربط الكاتب طوال حياته بصيد الحمام. سنرى تفاصيل الحلم المزعج في الفيلم. حلم يربطه أيضاً بالشخصية الأخرى في الفيلم، أي والده. أثناء المحادثات مع موريس، الذي يتواجد دائماً خلف الكاميرا مثل الشبح، سيروي كورنويل (الذي توفي عام 2020، بعد وقت قصير من إنهاء هذه المقابلات) قصصاً عن والده، روني كورنويل، المحتال بالفطرة، الشخصية الغامضة والشريرة، الذي عاش ليخدع نصف العالم، وكان ابنه مجبراً على مساعدته. الذكريات التي كانت تطارده عن حياة أبيه، صبّها في رواية «جاسوس مثالي» التي تُعتبر من أبرع أعماله. تحدث كورنويل أيضاً عن والدته، التي تخلّت عنهم بسبب والده، وتوقفت عن رؤية أولادها لمدة طويلة، وأيضاً عن المدة التي قضاها في الجامعة، كطالب ومعلّم. سوف يروي تحوّله من معاداة النازية إلى معاداة الشيوعية، وسيعترف بالخيانة التي خطّط لها ونفذها في الحرب الباردة. وسيتحدث قليلاً عن السياسة وبريطانيا، والسنوات التي أمضاها في عالم التجسّس وعمله مع «المكتب الخامس» (MI5) و «جهاز الاستخبارات البريطاني» (MI6)، إذ بدأ في كتابة الروايات تحت الاسم الذي نعرفه به جميعاً اليوم.
يتضمن الفيلم الكثير من المواد الأرشيفية، ومشاهد من الأفلام والمسلسلات المستوحاة من كتبه، وبعض المشاهد التجريبية من موريس، لكنّ جوهر الساعة ونصف الساعة هو المقابلة التي أجراها موريس مع الرجل الساحر، والطريقة التي يتكلم فيها لو كاريه. يحرّر موريس فيلمه الذي يأخذنا إلى عالم أعمال لو كاريه الغامض والمظلم والمثير. يؤكد موريس مرة أخرى على أنّ بعض الأفلام الوثائقية لا يحتاج إلى الكثير، بل فقط إلى أشخاص مثيرين للاهتمام وأذكياء ليتحدثوا أمام الكاميرا. هناك اختلافات بين الصورة السينمائية الجديدة لموريس وأفلامه السابقة التي صنعها طوال حياته المهنية الواسعة، تلك الخاصة بفريد أي ليتشو جونيور في «سيد الموت» (1999)، وبروبرت ماكنماري في «ضباب الحرب» (2003)، ودونالد رامسفيلد في «المجهول المعروف» (2023) وستيف بانون في «البهارما الأميركية» (2018) وغيرها الكثير. هذه الاختلافات تعود أولاً إلى أنّ هناك علاقة إعجاب وصداقة متبادلة بين موريس وكاري، وثانياً، إذا كان أي شخص يعرف كيف يكون الاستجواب، فهو جون لو كاريه على وجه التحديد. لذلك، لا يضغط موريس كثيراً على لو كاريه، والأخير يعرف بدوره كيف يُراوغ ولا يخوض كثيراً في القضايا الشخصية وحبّه وحياته الزوجية والجنسية، التي لم تكن خالية من الازدواجية والخداع على ما يبدو.
ها هو إيرول يجلس مرة أخرى أمام شخصية مراوغة، في محادثة ممتعة ومتحضّرة وواضحة للغاية. إجابات لو كاريه ذكية ولمّاحة دوماً. يصبح الجوار رائعاً بقدر ما هو جذاب. في الوقت نفسه، يستحيل الاستجواب استكشافاً وجودياً للذات لا مفر منه، على الرغم من أن لو كاريه كان يحاول في مناسبات عديدة الاختباء من موريس ومنّا ومن الكاميرا. هناك شيء عاطفي للغاية في الطريقة التي يحاول بها لو كاريه أن يشرح بعبارات دقيقة وصحيحة المواقف التي تمسّه بشكل شخصي للغاية، وهذا ليس ملاحظاً في الطريقة التي يتحدث بها، بل في الطريقة التي تبدو بها عيناه وقد تراكمت فيها بعض الدموع. «الآن، مع التقدم في السنّ، أشعر براحة أكبر مع نفسي، صرت أكثر تصالحاً مع من كنت، ومع من لم أكنه. لذلك، لا أشعر بالحزن الشديد عندما أنظر في المرآة»، هكذا قال لو كاريه قرب نهاية الفيلم
يظل هناك شعوران لا مفر منهما: الأوّل أنه بغضّ النظر عن مدى صدق وصرامة لو كاريه أمام الكاميرا، فإنه لا يزال يحمل الكثير من الألغاز والأسرار التي أخذها معه إلى القبر. والثاني أنّه تدرّب على نوع مماثل من المقابلات والاستجوابات خلال عمله مع الاستخبارات. لذلك يصعب تصديقه في بعض الأوقات حين يشكّك بنفسه أو بذاكرته، ويحاول إقناع نفسه أو إقناعنا بأنه لا يشبه الشخصيات التي خلقها على الرغم من وجود العديد من عناصر حياته في كتبه. هل نصدق كل ما يقوله لنا الموهوب جون لو كاريه؟ لكن هذا لا يتعارض مع القصة أو الفيلم أو الشخصية، على العكس، فهو يمنحنا ازدواجية متأصلة في أعمال لو كاريه وأعمال موريس: من يقول الحقيقة؟ من يكذب؟ من هو الخائن؟ وما هي الحقيقة في النهاية؟

The Pigeon Tunnel
على Apple TV