منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة إبان عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، اعتلت قناة «الجزيرة» عرش تأييد القضية الفلسطينية والمقاومة، فعوّضت خسارتها لعدد كبير من مشاهديها الذين خسرتهم بسبب تغطيتها المنحازة لما سُمي بـ «الربيع العربي». هكذا، استحالت الشبكة القطرية خياراً أوّلاً للمشاهدين الذين يريدون الوصول إلى آخر الأخبار المتعلّقة بالقطاع، وحظيت بنسب مشاهدة أعلى بأضعاف من القنوات المنافسة لها. لكنّ ذلك لا يعني أنّ أداءها كان مثالياً، بل خرجت أصوات كثيرة، ولا سيّما على مواقع التواصل الاجتماعي، تنتقدها وتبرز تناقضات معيّنة أو معايير مزدوجة في المحتوى الذي تقدّمه، أبرزها وصف العدوان بأنّه «حرب إسرائيل ــ حماس»، أو نزع صفة الشهادة عمّن يسقطون في الجنوب اللبناني بنيران العدوّ ولو كانوا صحافيّين.آخر هذه الأصوات تمثّلت في ملاحظات حول الاختلاف في الأداء بين يوم وآخر، والاختلاف بين القناة الأمّ الناطقة بالعربية وتلك التابعة لها الناطقة بالإنكليزية. قد يمكن تفهّم التباين بين القناتَين بالنظر إلى طبيعة الجمهور الذي تستهدفه كلّ منهما، إلّا أنّه وصل إلى حدود جعلته غريباً ونافراً، وأثار التكهّنات حول أجندة «الجزيرة» الحقيقية ومدى تأثّرها بالسياسة الأميركية. مع العلم أنّ الحكومة القطرية المالكة للقناة تربطها علاقات متينة مع الإدارة الأميركية.

(محمد نهاد علم الدين)

أبرز مثال على التأثّر بالسياسة الأميركية، كان تخفيف «الجزيرة» من وتيرة عرض صوَر الأطفال الذين يستهدفهم العدو الإسرائيلي في غزّة ونالوا تعاطف العالم. أتت هذه الخطوة بعدما طلبت واشنطن من الدوحة في مدّة الهدنة التخفيف من حدّة الهجوم على إسرائيل، لما لذلك من تأثير على وعي الشباب العربي خصوصاً والرأي العام العالمي عموماً. انعكس الأمر أيضاً تقليلاً في حجم التغطية الميدانية ووتيرتها، فيما نُقل المراسل وائل الدحدوح إلى خان يونس في جنوب القطاع. لكنّ صحافيّي القناة بقوا هدفاً لآلة حرب العدوّ الهمجية، ما أدّى إلى استشهاد المصوّر سامر أبو دقّة (1978 ــ 2023) وإصابة الدحدوح يوم الجمعة الماضي (الأخبار 18/12/2023).
يبدو أنّ «الجزيرة» لا تكترث لصحافيّيها بقدر ما تدّعي. بل يمكن القول إنّها تكسب شعبيّاً من استهدافهم. إذ كانت معظم أخبارها قبل ذلك منقولة عن جهات أميركية أو إسرائيلية، من بينها «القناة 12» وصحيفة «معاريف» الإسرائيلية والمتحدث باسم قوات الاحتلال الإسرائيلي دانيال هاغاري وهيئة البثّ وذوي «الرهائن» ورئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو وغيرهم. أما بعد الاستهداف الذي أدانته، فعادت إلى نشر بعض المشاهد لاستهداف الأطفال، مع التركيز أكثر من قبل على المقاطع التي تنشرها المقاومة الفلسطينية لعمليّاتها ضدّ العدو.
تعقيباً على ما سبق. نشر الكاتب السوري نارام سرجون مقالاً على مدوّنته تحت عنوان «الجزيرة ترقص رقصة سالومة للشعب العربي، وستطلب رأساً مقابل رقصها في غزة»، قال فيه إنّ القناة «يُسعدها أن تخسر بعض المراسلين لأنّ ذلك سيمنحها المصداقية. فكما قتلت أميركا الإعلامي الكويتي طارق أيّوب (1967 ــ 2003) مراسل «الجزيرة» إبان الغزو الأميركي لبغداد ونالت «الجزيرة» بموته صكّ البراءة لتدخل في لعبة الدمّ في الربيع العربي، فإنّها اليوم ستقدّم إصابة مراسليها على أنّها صكّ براءة وأنّها مستهدَفة لأنّها تشكّل خطراً على إسرائيل». بهذا، تكون القناة تلعب على الحبلَين، فتخطف ثقة المشاهدين في ظروف كتلك التي نعيشها حالياً، تمهيداً لاستغلالها سياسيّاً في محطّات لاحقة.
لا تسخّر القناة الإنكليزية كامل محتواها لفلسطين


التبدّل المستمرّ في تغطية «الجزيرة» وفقاً للظروف، ينعكس أيضاً على شاشتها الناطقة بالإنكليزية التي تتوجّه عموماً إلى جمهور غربي الهوى. فهي لا تسخّر كامل بثّها ونشراتها لفلسطين، رغم استحواذها على الحيّز الأكبر منها. فيما تركّز في أخبار فلسطين على ما يعني الجمهور الغربي، على غرار المواقف الدولية والأممية والتظاهرات والمقاطعة والدعوات إلى وقف إطلاق النار. كما أنّها تعتّم بشكل شبه تامّ على ما ينشره «الإعلام العسكري» التابع للمقاومة الفلسطينية، فيما يبدو أنّه لاعتبارات البثّ في بلدان الغرب وخوفاً من أيّ عقوبات محتملة. لذلك، تطغى لغة انهزامية على محتوى «الجزيرة» الإنكليزية، في مقابل عدم إظهار قدرات المقاومة التي تُثبت عبثية ما يقوم به الاحتلال وعدم قدرته على تحقيق أيّ من أهدافه المعلنة، فجلّ ما يقوم به هو قتل المدنيّين الأبرياء. يمكن مقاربة تعامل «الجزيرة» الإنكليزية مع عمليّات المقاومة الفلسطينية، بتعامل تلك الناطقة بالعربية مع عمليّات المقاومة في لبنان. لكن رغم ذلك، تؤدّي «الجزيرة» الإنكليزية دوراً لافتاً في تغيير المزاج العامّ في الغرب.
هي حلقة أخرى من مسلسل المعايير المزدوجة المستمرّ منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. لكن هذه المرّة، يضرب المرض المشاهدين في عقر دارهم، فيتسلّل عبر «فيروس» قناة «الجزيرة» التي يتبدّل أداؤها وفقاً للظروف، إلى جانب «بكتيريا» القنوات الغربية التي لولا خسارة المشاهدين لما أضاءت على معاناة الفلسطينيّين وادّعت الإنسانية.



RT تضيء على المجازر
يبدو أنّ قناة RT الروسية الناطقة بالإنكليزية حذت أخيراً حذو شقيقتها الناطقة بالعربية. إذ بدأت المحطة تعرض مشاهد الجرائم الصهيونية بشكل أكبر مما كان عليه سابقاً، وتورد تصريحات مسؤولين صهاينة يعترفون فيها بجرائمهم، مع التقليل من استضافة إسرائيليين مقارنةً بالمدّة الماضية. كذلك، تحرص بعض وسائل الإعلام الغربية أخيراً على الإضاءة على معاناة الفلسطينيّين. يمكن أن نعزو هذا التبدّل إلى حجم الكارثة الإنسانية التي يتسبّب فيها العدوّ، ولا سيّما بعد المشاهد التي نشرتها قوّاته لاحتجاز رهائن مدنيّين على الطريقة «الداعشية»، زاعماً أنّهم مقاومون. بالإضافة إلى استهداف المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء والفرق الصحافية، وصولاً إلى استشهاد الموظّف في وزارة الخارجية الفرنسية أحمد أبو شملة. وهو ما أدانته فرنسا ووسائل إعلامها، موجّهة أصابع الاتّهام إلى إسرائيل .