ليستْ كثيرة الأحلام التي تطارد المنفي، سوى العودة. تُرى بماذا كان يفكّر شيخ المنفى سعدي يوسف؟ العودة إلى أبي الخصيب؟ وما المانع من ممارسة حقّه بالحياة في العيش بهدوء في بلده الأم؟ لعلّه أكثر الشعراء العرب الذين تعرضوا لاضطهاد سياسي وثقافي واجتماعي. العرف السائد أنّ الشاعر الذي يزعج السلطة، ستتخلص الأخيرة منه بسهولة، عبر نفيه جغرافياً، لكن ما تعرّض له صاحب «صلاة الوثني»، كان نفياً مكانياً وثقافياً واجتماعياً. الدافع سياسي بالتأكيد، لا لشيء سوى أنّه امتلك شجاعة قول الحقيقة من دون تزويق يغيّبها، وتمزيق أغشية الاعتبارات التي تطمسها. لا أحد يشكّ في معارضته نظام صدام حسين، كما أنه الأشجع من بين الجميع في رفض الاحتلال الأميركي للعراق. هو لم يكن مخيّراً بين نظام ديكتاتوري واحتلال. لعلّه الأول من بين مثقّفي العراق الذي دعا إلى مقاومة الاحتلال الأميركي، ولهذا يأخذ عليه أغلب أعدائه بأنّه مع تنظيم «القاعدة» في وقت كان هناك تياران مقاومان للوجود الأميركي في العراق: تنظيم «القاعدة» و«جيش المهدي»، وكل من يرفع شعار المقاومة، محسوبٌ على أحد هذين الطرفين وإن لم ينتمِ إليهما. ولأنه دعا إلى مقاومة أميركا وطردها من بلاد الرافدين، فقد نُعت بشتى النعوت: مرة بأنه طائفي، ومرة أخرى بأنّه بعثي رغم تاريخه السياسي المعروف، لا لسبب إلا لأنه أعلن رفضه لأميركا، ورفضَ السلطة التي أنتجها ذلك الاحتلال، فحُرقت كتبه، وشُوهت حتى صورته الشخصية. هل هذا يعني أن الوعي العراقي والثقافة بعد عام 2003 لا زالا مرتهنين للاحتلال؟ في مفارقة عجيبة تنتمي إلى المضحكات المبكيات أنّ السلطة التي جاءت مع الاحتلال برموزها السياسية والدينية والقبلية وطردت سعدي يوسف، وأسهمت في تشويه صورته، تتبنّى اليوم موقفه تجاه المحتل، فالكل يدّعي وصلاً بالمقاومة. في حين تغيّر موقف رموز السلطة تجاه أميركا، من صديق إلى عدو، لم يتغير موقف السلطة من الشاعر سعدي يوسف. إذ ما زال مطروداً، ومستبعداً بتواطؤ من السلطة السياسية والثقافية. هكذا، لم يُذكر اسمه في أي احتفال ثقافي، ولم يقم أي استذكار احتفائي، ولا زال اسمه في الجلسات الخاصة مثار جدل وسجال. لدى رؤية ذلك، تشعر بأنّ هنالك فاعلاً خفياً داخل العراق، ليس بالضرورة شخصاً، بل ربما نوع من «الوعي المضمر» الذي يُمارس سطوته، محاولاً طمس أي أثر يسير حساسية «ولي النعمة»، لذلك شُنّتْ حملات منظّمة على «الشيوعي الأخير».
من هنا جاءت فكرة إعادة إحياء سعدي يوسف، واستدعائه في بغداد بعد كل هذه القطيعة. استدعاء يتحدّى أيضاً المؤسسات الثقافية التي أثبتت ذيليّتها للسلطة، وكشفتْ عن عجزها وخوفها. ولأن الشعر إحدى أهمّ وسائل الاحتجاج والرفض، فلم يملك العرب وسائل احتجاجية أخرى، كان هو الوحيد المعبّر عن تطلعات الإنسان وهمومه. الشاعر محمد مظلوم طرح سؤالاً على منظّمي «مهرجان المربد» في البصرة الذي أُطلِقَ على دورته الخامسة والثلاثين التي انتهت قبل أسبوع، اسم الشاعر أحمد مطر، قائلاً: «لماذا لا يطلق المربد حتى الآن اسم الشاعر سعدي يوسف؟». سؤال حقيقي، فهو ابن البصرة البار، فيما يتضمّن السؤال احتجاجاً وإحراجاً للسلطة السياسية الراعية للمهرجان، والسلطة الثقافية التي تنظمه. من هذا السؤال تكوّنت فكرة إقامة جلسة مخصّصة لاستذكار سعدي يوسف حملت عنوان «سعدي يوسف في بغداد: قصائد وشهادات». هكذا، احتفت مجموعة من الشعراء العراقيين من أجيال شتى غالبيتهم من المغتربين، بالشاعر الراحل ضمن ندوة احتضنتها «قاعة جمعية الثقافة للجميع» في بغداد في احتفاء هو الأول بيوسف منذ ما يقرب من أربعين عاماً.
تنوعت القراءات بين قصائد مهداة إلى الشاعر، وشهادات قدمتها مجموعة من الشعراء والنقاد هم: محمد مظلوم، عبد الحميد الصائح، زعيم نصار، نصيف الناصري، صلاح حسن، كريم شغيدل، أحمد الزبيدي، سلامة الصالحي، إيهاب شغيدل، زين حسين وطغى على القصائد طابع الحنين والاستذكار وتجسيد صورة المنفى المرة.
افتتح الشاعر محمد مظلوم الجلسة بقصيدة مهداة إلى سعدي يوسف بعنوان «قبور إيثاكا» تحدّث عن لحظات مرافقته للشاعر سعدي يوسف أثناء سماع خبر وفاة ابنه حيدر، وكان هذا الموقف هو بؤرة القصيدة، التي يقول في مطلعها: «هو ذا جيلُنا يا سعدي/ أخذنا حَقَائبَنا إلى الحرب/ وعُدنا مُبتسمين/ للنساء فِي ساحة الميدان/ دون صُحبةٍ من حياة/ كأنَّنا تركناها هناك/ في الأرض الحرام/ مع بساطيلَ بنية وسوداء!/ وأحذية رياضية/ لم تُسعفْ أصحابها فِي الهرب!». جاءت القراءة الثانية للشاعر عبد الحميد الصائح الذي استهل قراءته باعتذار من الشاعر سعدي يوسف، وحملت قصيدته عنوان «قرى محطمة» يقول فيها: كما الأملْ/ هو الولي/ ذلكَ الطريقُ الذي أغويتَنا إلى ظلامِهْ/ لنتركَ الصرائفَ غافيةً على شواطئ الفقر/ ونَلتحف شِباك الصيدِ حفاةً عراةً/ تَجلدُنا القصائدُ في الطريقِ معكْ/ تطاردُنا الطبولُ إلى منفى من نعاسٍ طويلْ».
وقدم الشاعر نصيف الناصري شهادته، مستذكراً المواقف الشخصية التي جمعته بالشاعر في عمّان. أما الشاعر صلاح حسن فقد قرأ قصيدته المهداة إلى يوسف وسبقها بحديث طويل عن بعض المواقف التي حصلت مع الشاعر، في حين قرأ الشاعر زعيم نصار قصيدته «رسالة بعد الساعة الأخيرة» يقول فيها: «أردّد مع قلبي نشيج الليالي كلِّها/ استشعرُ الصدمةَ التي تضربُ مزاجي المتعكّر، أستدرجُ وردةً منسيّة في أعماقي، بلا انتظار، لا أفكّر بالكلام، لا أنتظر أحداً، أوهمُ نفسي أنّني استمتعُ بلعبةٍ مع الكلمات/ بينما كنتُ أرى المدينة صفراء من شدّة الكراهية». من جهته، قدم الشاعر والناقد كريم شغيدل شهادته الاحتفائية (استعادة سعدي يوسف/ شهادة متأخرة) قال فيها: «هذه ربما أولى المبادرات لاستعادة سعدي يوسف الشاعر والمترجم والناثر والثوري التقدمي المعارض للاستبداد والطغيان والدكتاتورية». أما الناقد الأكاديمي أحمد الزبيدي قدم ورقته النقدية بالحديث عن المنفى والمكان في شعر سعدي يوسف، ثم قرأت الشاعرة سلامة الصالحي قصيدتها، ليقدم بعدها ــــ من جيل الشباب أو الجيل الجديد كما يطلق عليهم ـــــ الشاعر إيهاب شغيدل شهادته التي جاءت بعنوان «ثقافة الطرد والاستبعاد... مأساة سعدي يوسف» قال فيها: «طرد سعدي يوسف من جنة الثقافة العراقية؛ لأنه أول من تطاول على عرش هذا النظام، وحاول فتح آفاق جديدة للنظر في المهيمنات التي يرتكز عليها النظام السياسي العراقي بعد عام 2003، لكن الخروج من نسق الثقافة العراقية له ثمنه حتى وإن كنت الأخضر بن يوسف».