رأيت وجه الموت عن قرب، بضع مرات، وعلمت أن الإنسان يكبر من الألم وليس من العمر. ولو قسنا عمرنا بحجم آلامنا لأدركنا أننا كَهَلة. ستة أشهر من الحرب عجّزتنا وحمّلتنا شوقاً أكبر إلى النصر والحياة وحبّاً أكبر للموطن. فالألم يغذي القوة.
في منزلي، عند أول كيلومترات من منطقة جنوب الليطاني، تتخفّى رائحة الموت برائحة زهر المارغريت والعشب الأخضر الطازج. المنزل «آمن» تقريباً لأنه بعيد بشكل كاف عن الحدود المشتبكة، لكنه أيضاً «غير آمن» لأنه بعيد عن العاصمة اللبنانية.
هنا، استحدثنا حياة «مؤقتة» نعيشها كل يوم على حدة، أو كل ساعات. نحسب عدد الغارات، سمعياً، ونتحزّر موقعها قبل ورود الخبر العاجل. الغارات المحددة التي تنفذها القوات المعادية مفاجئة وغادرة، وورود الخبر العاجل يستلزم دقائق طويلة كأنها دهر: أسَقَط شهداء؟

ازدواجية المشاعر
من قلب الحرش عند أعلى الجبل، اعتدت «التصبّح» بصوت العصافير (بالمعنى الكليشيه)، ما لبث أن لوّث المشهد كائن جارح غير طبيعي: طائرات الاستطلاع تبدأ جولاتها مع طلوع الفجر ولا تستكين. أتصوّرني وأنا أترك خبزاً للطيور؟ هل تشاهدني وأنا أنشر الغسيل؟ أتكترث الاستخبارات الإسرائيلية لهذه المسائل، وما رأيها بشرفتي الفوضية؟ أُنزل الستائر كالنعامة التي لا تعرف كيفية الاختباء، وأحرم نفسي من أشعة الشمس والفيتامين دال. أستعد لروتيني الصباحي. أأصطحب ابني إلى المدرسة اليوم؟ ماذا لو طرأ حدث ما؟ هل سأتمكن من بلوغ المدرسة حينها؟ المدرسة آمنة أكثر من المنزل في كل الأحوال، حسناً نذهب ونتمسّك بالروتين عربون تمسّك بـ «الحياة الطبيعية» التي نشتاقها. طبول الحرب لم تُقرع بعد.
أبلغ النادي الرياضي بخطوات بطيئة وتردّد. لقد لزمني سنة كاملة لأستعيد وزني المثالي. الوقت مناسب للرياضة أم من الأجدى متابعة الأخبار، وحفظ جرائم الحرب المرتكبة في غزة، وتثبيتها في الذاكرة كي لا ننسى؟ أيتنبّه المُسعف إلى وزن الشهداء والجرحى حين يسحبهم من تحت الركام؟ بماذا ينفعني الوزن المثالي إن أغارت الطائرات الحربية على منزلي اليوم؟ لا هدنة مؤقتة قريبة بحسب نتنياهو. لكنه كذّاب. لا أصدق جزاراً.
أتناسى فظائع الحرب لبرهة وألتقط أنفاسي، فتعلو أصوات القصف المدفعي والغارات من ناحية حولا وكفركلا والوزاني وراشيا الفخار، توقظ فيّ وسواس الحرب والخراب. الغارات التي تضرب الجرمق أقربها، وأقواها صدى. أما تلك التي سقطت خلف منزلي فكانت أشبه بالأفلام. كلها لا تقارن بغارات غزة، فكيف تكبر القدرة على التحمّل عندما يكبر حجم المُصاب؟ لو ولدنا بقطعة الأرض المجاورة، هل كنا لنتحمّل المذبحة القائمة؟ هلّا استطعنا دفن الأحباب وترك الأرض والموت جوعاً. كيف نجرّ أجسادنا؟ أنُصاب بالجنون؟

مقدار الطعام
لم أحظَ بخبز الشوفان الأسمر اليوم خلال رحلة التسوّق. فاخترت بدلاً منه خبز الشوفان الأبيض. آخرون في الجوار لا يحظون بالقمح، أو السكر ويقعون في فخ الطحين. مذبحة والأمعاء فارغة.
اخترت أيضاً نصف كيلوغرام من اللبنة، فقد لا أحظى بالوقت الكافي لاستهلاك كيلوغرام كامل: وقت «التهجّر» قد يكون قريباً. أفرد أكياس التسوق قرب مقعد السائق، فشنط «التهجّر» تملأ الصندوق منذ أشهر. عيش مؤقت على أرض «حقها دم». أحضر الأغراض إلى المنزل، ترافقني في الرحلة طائرة الاستطلاع اللعينة. طنينها يخدّر أذنيّ ويملأ رأسي ويرفع من نسبة الكورتيزول في جسدي. أحضّر وجبات الطعام «عالقدّ» وأي فضلات تشعرني بالغثيان. على مقربة مني العشرات من الأطفال يقضون جوعاً وجفافاً، وأكثر من نصف مليون إنسان يواجهون المجاعة. تجفّ أجساد الغزاويين رغم الشرائع و«الجهود الإنسانية» لرفع المظلومية. حبر على ورق.

أبواب السماء
رسمياً، أكثر من ثلاثين ألف روحٍ استقبلتهم السماء في حرب الإبادة. زحمة على أبواب السماء. متى يكفّ الموت يده عنا؟ أتبكي السماء عندما تلقى الأطفال والخدّج؟ أتعطف عليهم وتحتضنهم؟ وما مصير أمّهم إن فلتت من يد الموت إلى لعنة الحياة؟ يستعير الأب قرط ابنته الطفلة الشهيدة ويشكّه وساماً على قميصه. أنسحب نحو سرير دافء بحجة النوم، وأجرّ معي أفكار النهار كوابيس. أهدّئ من روعي: لا زال السقف فوق رأسي متيناً. اجتزت هذا اليوم على خير، ولم أرَ وجه الموت. أغراضي مرتّبة في مكانها، الأثاث، الكتب، المدفأة، نصف كيلوغرام من اللبنة، الصور المعلّقة، أفراد العائلة. قواعد حياتي بخير بفضل ثلّة من الصادقين.

الانتماء
منذ أن بدأت الحرب، يطاردني الشوق إلى «الانتصار». عام 2006 تعرفّت إلى معنيَيْ الانتصار والانتماء.
مع فجر 14 آب 2006، توجّهنا من بيروت إلى ضيعنا في الجنوب محمّلين بنشوة «الانتصار الإلهي»، عدت إلى أرضي بعد 20 يوماً من النزوح فكان لها لون آخر، وللهواء شكل جديد، وأراني أشبه شجرة الصنوبر العملاقة أمام منزلي، أتمدّد داخل الأرض وأعانقها. الأرض لنا ولون التراب من جلدنا. كل أصوات الغارات تذكرنا بانتصار حرب تموز وتحفّز فينا الشوق إلى نصر جديد.