ارتبط بروز شركة «فاغنر» الروسية داخل عدد من البلدان الأفريقية، خلال الأعوام القليلة الماضية، بعاملَين أساسيَّين: أوّلهما، حدوث تحوّل في السياسة الخارجية الروسية نحو الانخراط الفاعل في الشؤون الدولية، وتحديداً في «القارة السمراء»، وذلك كشكل من أشكال ردّ الاعتبار إلى موسكو من جرّاء ما دأب مسؤولوها على وصفه بـ«الخديعة الليبية» من جانب الغرب، وثانيهما يتعلّق بواقع استعانة الدول الكبرى بـ«جيوش المرتزقة» أو «الشركات الأمنية الخاصة» لأسباب سياسية واستراتيجية، لعلّ أبرزها تجنيب الدولة التكاليف المادّية والبشرية الباهظة للتدخّل العسكري المباشر في عدد من المناطق الساحنة. ويتفرّع من تلك الأسباب، جانب اقتصادي لا يقلّ أهمّية، يَفرض نفسه كأحد تجلّيات «النيوليبرالية»، وعنوانه اقتحام الشركات، من بوّابة «الخصخصة»، أحد أكثر نطاقات العمل المنوطة تقليدياً بالحكومات، أي «الوظيفة الأمنية».ولأن الغموض يحيط بعمل «فاغنر» وظروف ودوافع نشأتها، تتضارب التحليلات في هذا الشأن؛ إذ يحلو للبعض أن يدرج تلك الظروف - بشيء لا يخلو من المبالغة - ضمن سياق ازدهار ظاهرة «الميني-جيوش» أو القوات شبه الرسمية الموازية داخل عدد من بلدان المنطقة نتيجة ظروف عسكرية وأمنية خاصة، كـ«الحشد الشعبي» الناشئ في ظروف الحرب على «داعش»، أو تلك المولجة مهمّة إيديولوجية أو أمنية محدَّدة خارج الأُطر الهيكلية الرسمية للقوات المسلّحة النظامية، والمحكومة بولاء سياسي معيّن تجاه فرد أو نظام سياسي، كـ«الحرس الثوري الإيراني»، أو «كتيبة السيف الأجرب» في السعودية، والخاضعة لإمرة مباشرة من جانب وليّ العهد محمد بن سلمان، والمولجة حماية كبار شخصيات العائلة المالكة. وإذ قد تصحّ تلك الفرضيّات في ضوء التعهّد العلني من قِبَل «الأب الروحي» للمجموعة - المقدَّر تعداد عناصرها بنحو خمسين ألفاً -، يفغيني بريغوجين، بتحويلها من مجموعة عسكرية خاصّة إلى «جيش ذي إيديولوجية»، فإن آخرين يسقطون عنها أيّ صبغة إيديولوجية أو ولاءات سياسية، ويحصرونها ضمن إطار «بزنس» تجاري بحت، يجعلها تتماهى بشكل أو بآخر مع نظيرتها الأميركية السيّئة السمعة، أي شركة «بلاكووتر» التي ذاع صيتها في العمل داخل العراق عقب اجتياحه عام 2003، قبل أن تتّخذ لنفسها لاحقاً اسم «إكس إي».
وفي حين لم يتكشّف الكثير في شأن وجود دور ما لـ«فاغنر» في المعادلة الداخلية في روسيا، فإنه لا يمكن فصْل مسار عمل الشركة عن الخطوط العريضة لسياسة الكرملين الخارجية، في ضوء إمساك الأخير بكلّ خيوط اللعبة داخل النظامَين السياسي والاقتصادي للبلاد على حدّ سواء. ولربّما يمكن تفسير «اقتحام» مقاتلي «فاغنر»، أو «أشباح بوتين»، كما يسمّيهم الإعلام الغربي، ساحات المعارك في أفريقيا، في غير دولة، كأحد المترتّبات المتأخّرة على صعود الدور الروسي في العقد الأول من الألفية الثالثة. على أنه، وإنْ كانت «فاغنر» تشكّل ذراعاً مسلّحة خفيّة للكرملين، فإن تجاهل الغربيين للمصالح الروسية في أكثر من زمان ومكان، لعب دوره في مراكمة الفواتير على الغرب، والتي باتت تنشد موسكو تسديدها بهذه الذراع، الأقرب إلى أن تكون «قوّة عسكرية بالوكالة» عن وزارة الدفاع الروسية.

«فاغنر»: بطاقة تعريفية
جاءت تسمية «فاغنر»، والراجعة إلى الموسيقيّ المفضّل لدى زعيم ألمانيا النازية، أدولف هتلر، ريتشارد فاغنر، بوحي من أحد أبرز القادة المؤسّسين للمجموعة، والذي كان أحد جنرالات القوات الخاصّة الروسية، وعُرف عنه ولعه الشديد بتاريخ ألمانيا خلال الحقبة النازية. وتعرّض هذا الجنرال الروسي - واسمه ديمتري أوتكين -، الحائز أوسمة عسكرية رفيعة قلّده إيّاها رئيسه فلاديمير بوتين، لعقوبات من قِبَل واشنطن على خلفية دوره التأسيسي لـ«فاغنر»، «الاسم الحركي» لأوتكين.
وبحسب السلطات الأميركية، فإن المموّل الرئيس للشركة الأمنية، هو رجل الأعمال الروسي، يفغيني بريغوجين، المعروف بقربه من بوتين، الأمر الذي كان سبباً في أن يطاوله أيضاً سيف العقوبات الأميركية والأوروبية، بما شمل مصادرة 3 طائرات خاصّة به، وأحد اليخوت العائدة إليه. وبالفعل، كوّن المستثمر القادم من قطاع المطاعم، والمنحدر من مدينة سان بطرسبورغ، مسقط رأس بوتين، جزءاً كبيراً من ثروته من جرّاء تعاقداته المربحة مع الحكومة الروسية على صعيد التوريدات الغذائية، قبل أن يَبرز اسمه في ملفّات سياسية، على غرار اتّهامه بالتدخُّل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ونزاعات خارجية كتوفير دعم لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا، حيث يَنتشر الآلاف من مقاتلي «فاغنر» في أربع قواعد عسكرية في أنحاء البلاد، معظمها بالقرب من حقول النفط الكبرى، أو ما يُعرف بمنطقة «الهلال النفطي».
لا يمكن فصْل مسار عمل شركة «فاغنر» الروسية عن الخطوط العريضة لسياسة الكرملين الخارجية


ولطالما أحاطت السرّية جانباً كبيراً من عمل الشركة التي دأب بريغوجين و«الكرملين» على نفي وجودها من الأصل - ولا سيما أنها غير مسجّلة وفق الأصول بموجب القوانين الروسية - إلى أن افتتحت مقرّاً لها بصورة رسمية في سان بطرسبورغ، أواخر العام الماضي، بالتوازي مع تواتر التقارير الأمنية حول تدشين قاعدة تدريب تابعة لها بالقرب من إحدى القواعد العسكرية التابعة للقوات الخاصة الروسية في قرية مولكينو. وقبل ذلك، فإن دورها برز عقب اندلاع أحداث شبه جزيرة القرم عام 2014، مع نجاح الرئيس الروسي في سلخ الأخيرة عن أوكرانيا وإعادة ضمّها إلى بلاده، واندلاع المواجهات في إقليم دونباس بين كييف والانفصاليين. وعلى رغم تضارب المعطيات في شأن تشكيلتها، ومعظمها غربي في العموم، ومن ضمنها تقارير حول ارتكاب عناصرها جرائم حرب، يشكّل الروس، وبعضهم عناصر وضباط سابقون في الجيش، فيما بعضهم الآخر محكومون بجرائم مختلفة، النسبة الكبرى من عداد «المرتزقة» لدى «فاغنر»، إلى جانب أفراد من دول أخرى، على غرار بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، كأوكرانيا، أو دول عربية كسوريا، إضافة إلى بلدان أفريقية شهدت نشاطاً ملحوظاً للمجموعة كمالي، وموزمبيق.

«إمبراطورية بريغوجين»: أبعد من القتال... دور تجاري وإعلامي
مع مرور الوقت، وشيوع أمر الروابط الوثيقة التي تَجمع بين وزارة الدفاع الروسية وبريغوجين، تمكّن الأخير من توسيع نشاطات «فاغنر»، التي باتت علامة تجارية لشركات متعدّدة النشاطات داخل روسيا وخارجها، كما من التقرّب من رؤساء دول وقادة عسكريين وسياسيين بارزين. فعلى الساحة الأفريقية تحديداً، أرسى الرجل، الملقّب بـ«طبّاخ بوتين»، أدواراً سياسية وإعلامية وتجارية مستجدّة لشركاته، على رأسها حصوله على عقود امتياز لاستثمار مناجم معادن نادرة كالذهب، في أكثر من دولة كالسودان. وبالاستفادة من الشعبية الواسعة لروسيا لدى المجتمعات الأفريقية، لأسباب تاريخية وإيديولوجية، إلى جانب تفضيلها من قِبَل النخبة الحاكمة هناك باعتبارها المورّد الرئيس للأسلحة إلى بلدان القارة، كان مؤسّس «فاغنر» يسجّل حضوراً عسكرياً متنامياً لشركته في أقطار تعاني من صراعات كأفريقيا الوسطى ومالي. وعلاوة على اضطلاع عناصرها بأدوار قتالية وتدريبية في كلا البلدَين، تحت عناوين متّصلة بدعم حكومتَيهما في وجه تنظيمات محلّية متشدّدة، وبعضها تابع لتنظيم «داعش»، بصورة أسهمت في انزياح النفوذ التقليدي لقوى غربية، على رأسها فرنسا، من المشهد الأفريقي تباعاً كما في حالة مالي، وبوركينا فاسو، وأخيراً الكاميرون التي أَبرمت معاهدة دفاعية مع موسكو، تكشف مصادر دبلوماسية، نقلاً عن تقارير استخبارية أوروبية، أن «فاغنر» عمدت، على رغم انسحاب مقاتليها من موزمبيق عام 2020، إلى الإبقاء على خليّة مؤلّفة من عدد محدود من الأفراد هناك، مهمّتها القيام بحملات دعائية وحرب إلكترونية عبر الفضاء «السيبراني» لحساب أجهزة أمنية حكومية.
وتفيد مصادر غربية، أيضاً، بأن شركات متفرّعة من «فاغنر» لعبت دوراً في إدارة حملات سياسية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، في ما لا يقلّ عن اثنتي عشرة دولة أفريقية، بهدف توجيه الرأي العام، والتأثير في توجّهاته، بخاصّة إبّان الفعاليات الانتخابية. ففي عام 2021، رصدت وزارة الخزانة الأميركية ما زعمت أنّها «شركة واجهة» مملوكة لبريغوجين، تتولّى ذلك النوع من العمليات في كلّ من زيمبابوي ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديموقراطية وجنوب أفريقيا وموزمبيق. كما أن شركتَي «فايسبوك» و«تويتر» حذفتا مئات الحسابات الوهمية التي يشتبه في تشغيلها من جانب «فاغنر». إضافة إلى ذلك، أَقحم بريغوجين شركاته، المتفرّعة من «فاغنر»، في «معركة كسب العقول والقلوب» لدى الأفارقة، عبر مشاركته في تنظيم نشاطات خيرية لتوزيع الأطعمة على المعوزين، فضلاً عن دخوله المجالَين الفنّي والاجتماعي من خلال رعاية وسائل إعلامية ومسابقات جمالية، وتمويل إنتاج عدد من الأفلام السينمائية التي تمجّد «فاغنر»، بوصفها علامة تجارية لـ«القوّة الناعمة» لبلاده.

السودان: أيّ دور لـ«فاغنر»؟
بداية رحلة الشركة «الأسطورة»، كما وصفها بريغوجين نفسه في إحدى المقابلات، مع السلطات السودانية، كانت خلال عهد الرئيس السابق، عمر البشير، وتحديداً أثناء زيارة قام بها الأخير إلى روسيا عام 2017، بهدف إجراء مباحثات مع الرئيس فلاديمير بوتين في شأن إقامة قاعدة بحرية لبلاده في مدينة بورتسودان، على سواحل البحر الأحمر، إلى جانب البحث في منْح شركات روسية حقوق امتياز التنقيب والتعدين لعدد من مناجم الذهب، بخاصّة في منطقة العبيدية، الواقعة على بعد 320 كيلومتراً، شمالي الخرطوم. وبالفعل، أعقب ذلك إيفاد مجموعة من الجيولوجيين وخبراء المعادن الروس من قِبَل شركة «ميرو غولد»، المملوكة لبريغوجين، والمتفرّعة من «فاغنر»، إلى السودان لمباشرة أعمالهم. وبعد أسابيع قليلة من اللقاء بين البشير وبوتين في سوتشي، بادر بريغوجين إلى اصطحاب عدد من الجنرالات العسكريين الروس إلى العاصمة السودانية لعقد اجتماعات مع مسؤولين عسكريين سودانيين، من بينهم عبد الرحيم حمدان دقلو، شقيق قائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو «حميدتي». وخلال احتجاجات عام 2019، أُشيع أن الشركة تعاقدت مع تلك القوات لتزويدها بمعدّات أمنية كدروع مكافحة الشغب وخوذات الرأس. وعقب سقوط حُكم البشير في العام المذكور، تحوّلت «فاغنر» إلى تعزيز تعاونها المباشر مع «حميدتي»، في مجال تجارة الذهب ونقله من المناجم السودانية إلى العاصمة الروسية، تمهيداً لبيعه عبر وسطاء، معظمهم في دبي. ووفق إحصاءات غير رسمية لعام 2021، فقد ناهز حجم تجارة الذهب السوداني المهرّب عبر السوق الإماراتية، نحو 1.7 مليار دولار، بما يوازي 70% من إجمالي إنتاج السودان، الذي يُعدّ ثالث أكبر مصدّر للمعدن الأصفر في أفريقيا.
أمّا نقطة التحوّل النوعي في العلاقات بين موسكو و«حميدتي»، فجاءت مع بدء الحرب في أوكرانيا، مطلع عام 2022، حين توجّه دقلو في زيارة رسمية لموسكو أواخر شباط من العام نفسه، ولمدّة أسبوع كامل، والتقى مسؤولين بارزين، في طليعتهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين. وفي هذا الصدد، أشار الدبلوماسي الأميركي السابق والمحلّل في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه»، كاميرون هيدسون، إلى أن «حميدتي سافر إلى روسيا حاملاً معه أكثر من 30 مليون دولار من عائدات الذهب السوداني، كما عمد إلى إبرام صفقات جديدة لاستثمار مناجم الذهب نزولاً عن رغبة الروس». ووفق مصادر استخبارية غربية، فإن تسلسل الأحداث المشار إليه يحمل دلالات على «تغيّر موقف واشنطن تجاه السودان، ذلك أن بند الحريات السياسية لم يعُد مدرجاً في أجندة الولايات المتحدة في ذلك البلد، بعدما حلّت محلّه أولوية مستجدّة، وأكثر إلحاحاً، تتعلّق باستعادة الاستقرار في أقرب وقت ممكن، حتى لو كان هذا يعني إضفاء الشرعية على سلطة البرهان، بهدف مواجهة نفوذ موسكو الإقليمي المتنامي». وتضيف المصادر نفسها أن «الولايات المتحدة تأمل في قلب ميزان القوى لصالح رئيس مجلس السيادة الانتقالي، على حساب حميدتي».
وربطاً بمجريات الصراع الدائر في السودان، وما يثيره من قلق لدى الدوائر الأميركية، كشف موقع «أفريكا إنتلجانس» أن تعاون قوات «حميدتي» مع الشركة الروسية على الحدود السودانية مع جمهورية أفريقيا الوسطى، شكّل العنوان الأبرز للمحادثات التي أجراها رئيس الاستخبارات العسكرية السودانية، محمد أحمد صبير، المعروف بولائه الشديد للبرهان، مع كبار مسؤولي الإدارة الأميركية، بخاصّة في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية، في واشنطن قبل أشهر من بدء «حرب الجنرالَين». وبحسب الموقع الاستخباري، فقد دعمت روسيا التوصّل إلى اتفاق غير رسمي بين «حميدتي» وحكومة الرئيس فاوستين تواديرا في جمهورية أفريقيا الوسطى، ينصّ على السماح لـ«الدعم» بالتدخّل في المحافظات الشمالية للبلاد، والمحاذية للحدود السودانية دعماً لقوات «فاغنر» التي تعمل لحساب حكومة تواديرا، في مواجهة قوات المتمرّدين. وعلى رغم إعلان قيادة «الدعم» إغلاق هذه الحدود، يفيد الموقع بأن ما لا يقلّ عن 500 عنصر من تلك القوات يشاركون في عمليات عسكرية في عمق 30 كيلومتراً داخل أراضي الجمهورية، مشيراً إلى أن هذا «التعاون» من شأنه أن يوفّر لـ«فاغنر» حقوق استثمار مناجم الذهب العائدة إلى الجمهورية، ولـ«الدعم» فوائد جيوسياسية عبر ترسيخ دور إقليمي لزعيمها، بما يجعله رقماً صعباً في المعادلة الداخلية لعدد من البلدان المجاورة، كتشاد، ولا سيما أنه يستضيف في إقليم دارفور فصائل تشادية مسلّحة، جلّها من القبائل العربية المعارضة لحكم الرئيس إدريس ديبي.