بدأت تركيا، قبل نحو شهر، سلسلة تعديلات في سياستها في الشمال السوري الخارج عن سيطرة الحكومة السورية، والذي تسيطر عليه فصائل عديدة تابعة لأنقرة. وتستهدف هذه التعديلات، على ما يبدو، إنهاء حالة الفوضى التي تعيشها تلك المناطق، تمهيداً لاستكمال مشاريع بناء قرى ومدن جديدة لإعادة توطين لاجئين سوريين يتمّ انتقاؤهم بما يخدم هدف تشكيل حزام سكاني قرب حدود تركيا الجنوبية، يضمن للأخيرة التخلّص من عبء اللاجئين السوريين على أراضيها من جهة، وتثبيت موطئ قدم لها في الداخل السوري من جهة أخرى. وتشمل الإجراءات الجديدة، التي بدأت بتغييرات في الهيكلية العسكرية لـ«نقاط المراقبة» التركية المنتشرة في ما يعرف باسم «مناطق خفض التصعيد» المتفق عليها بين موسكو وأنقرة، وفق مصادر ميدانية تحدّثت إلى «الأخبار»، استبدال عدد من ضباط الجيش التركي، بالإضافة إلى عدد من ضباط الاستخبارات المشرفين على بعض ملفّات الشمال السوري. ويبرّر أحد المصادر هذا الإجراء الأخير بنقطتين: الأولى، تتعلّق بمحاولة قطع العلاقات العميقة التي نشأت بين الضباط وبعض المتنفّذين على الأرض؛ والثانية مرتبطة بمحاولة تنشيط الدور العسكري التركي والتخلّص من حالة «الركود» التي تسبّب بها الروتين اليومي.وإذ تأتي هذه التغييرات بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الهجمات ضمن مناطق «خفض التصعيد»، عبر محاولة مقاتلين تابعين لـ«هيئة تحرير الشام» شنّ هجمات مباغِتة على نقاط الجيش السوري، أو محاولة استهدافها بالقذائف الصاروخية والطائرات المسيرة كما حدث قبل ثلاثة أيام عندما أُطلقت ثلاث طائرات قام الجيش بإسقاطها، فهي تثير تساؤلات عديدة في الأوساط المعارضة السورية حول الدور الجديد الذي تستعدّ أنقرة للعبه في الملفّ السوري، في ظلّ تأرجحها بين المعسكرَين الروسي والأميركي، ومحاولتها استعادة علاقتها القوية بواشنطن من جهة، وإعادة الانفتاح على دمشق وفق خريطة الطريق الروسية من جهة ثانية.
وفي الإطار نفسه، تكشف مصادر سورية معارضة، في حديث إلى «الأخبار»، أن ملف إعادة انتخاب رئيس جديد لـ«الائتلاف السوري» المعارض لا يزال «قيد النقاش»، في ظل تعثّر الاتفاق على رئيس جديد حتى الآن، نتيجة عدم تلقّي «الائتلاف» أيّ توجيهات تركية مباشرة، كما جرت العادة سابقاً. وتربط المصادر صمت أنقرة «التوجيهي» بطرح من قِبَلها، تتمّ مناقشته، حول إمكانية تصعيد «الحكومة المؤقّتة» المنبثقة أصلاً من «الائتلاف»، لتلعب الدور السياسي المحدود الذي كان يلعبه الأخير سابقاً، إلى جانب «هيئة التفاوض السورية»، مضيفةً أن اللقاء الأخير الذي عقده رئيس «المؤقتة»، عبد الرحمن مصطفى، مع المدير الإقليمي للملفّ السوري في وزارة الخارجية الأميركية، نيكولاس غرينجر، في ولاية غازي عنتاب جنوبي تركيا، لمناقشة «العقوبات التي فرضتها واشنطن على خمسة فصائل معارضة»، يصبّ في تعزيز دور «الحكومة» الجديد، بعدما كان «الائتلاف» هو الذي يتولّى عقد هذا النوع من اللقاءات التي ستزداد في الفترة المقبلة. ويأتي ذلك في أعقاب انتخاب «هيئة التفاوض» بدر جاموس رئيساً لها - قبل أقلّ من شهر - لدورة جديدة، تمهيداً لإعادة استكمال مسار «اللجنة الدستورية» المجمّد، والذي قد تتمّ إعادة تنشيطه خلال الشهرين المقبلين بعد الاتفاق على نقل مقرّ عقد لقاءاته، من جنيف السويسرية إلى مسقط في سلطنة عمان، وفق ما اتفقت عليه «لجنة الاتصال» الوزارية العربية في الاجتماع الأول لها الذي استضافته القاهرة في الخامس عشر من الشهر الحالي.
تدرس تركيا ربط مناطق الشمال السوري، باستثناء إدلب، بمرجعية سياسية تركية واحدة


ويستهدف الطرح التركي المرتبط بتصعيد «الحكومة المؤقتة» التي كانت تولّت مسؤولية إدارة بعض المؤسّسات التي أنشأتها تركيا في الشمال السوري، وفق المصادر، تحقيق مجموعة من الأغراض، من بينها التخلّص من العبء المالي المستمرّ الذي يتطلّبه «الائتلاف»، علماً أن أنقرة خفّضت تمويلها للأخير إلى أدنى حدّ منذ تأسيسه، وتعمّدت خلال الأشهر الماضية تأخير المدفوعات له بهدف زيادة الضغط عليه، قبل أن تتدخّل قطر وتقوم بتمويل بعض أنشطته. وتلفت المصادر إلى أن تركيا «تريد من المعارضة السورية الاعتماد على نفسها اقتصادياً، وفق خطّة يمكن لـ"الحكومة المؤقتة" تنفيذها، بالإضافة إلى التخلّص من التدخل الدولي المستمرّ في شؤون "الائتلاف" الذي ينشط خارج سوريا»، مستدركةً بأن خطوة كهذه «قد لا يتمّ اتخاذها بشكل مباشر، وإنما عبر تصعيد مستمرّ لدور "الحكومة" و"اللجان المحلية" بصفتها الاعتبارية، وتقليص مستمر لدور "الائتلاف" الذي يمثّل الواجهة السياسية للمعارضة».
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، بدأت تركيا، وفق المصادر، دراسة إمكانية ربط مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، باستثناء إدلب، بمرجعية سياسية تركية واحدة، بدلاً من حالة الشتات السابقة التي تسبّب بها ربط المناطق بولايات مختلفة، وذلك عن طريق تعيين «حاكم واحد» يضمن «تحكّماً مركزياً مطلقاً». وتأمل تركيا، من خلال هذه الخطوة، أن تضع حدّاً لحالة الفوضى القائمة نتيجة تناحر الفصائل، والتي تسبّبت بهدر الأموال، ومنعت من الاستفادة من الاستثناءات التي قدّمتها واشنطن لبعض المناطق في الشمال السوري من قانون «قيصر». كما تأمل أنقرة، من طريق الإجراء المتقدّم، تسريع وتيرة بناء ما يعرف بـ«مدن الطوب» المموَّلة من قطر لإعادة توطين اللاجئين السوريين.
أمّا بالنسبة إلى «هيئة تحرير الشام»، فترى المصادر أن الأخيرة تمكّنت بالفعل من ترسيخ حضورها في مناطق انتشار الفصائل في الشمال، سواءً عبر ارتباطاتها بفصائل عدّة، أو من بوابة الاقتصاد الذي أحكمت الجماعة سيطرتها عليه عن طريق حصر تجارة النفط بشركة «الأنوار»، وهي فرع يتبع شركة «وتد» التي أسّسها زعيم «الهيئة»، أبو محمد الجولاني، في إدلب، فضلاً عن سيطرتها والجماعات المرتبطة بها على أبرز المعابر الاقتصادية مع مناطق نفوذ «قوات سوريا الديموقراطية - قسد»، التي تتحكّم، تحت إشراف أميركي، بأهمّ منابع النفط السورية في الشمال الشرقي من البلاد. ومن شأن الوضع المشار إليه أن يساعد الجولاني في مساعيه لإعادة تحكّمه المطلق بجماعته، عبر استبعاد شخصيات نافذة منها، بينها الرجل الثاني في «تحرير الشام»، أبو ماريا القحطاني، ومن ثمّ استكمال تغوّله في ريف حلب. وتعتقد المصادر أن ذلك التغوّل سيصبّ في صالح توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في الشمال والشمال الغربي من البلاد، وسيخدم المصلحة التركية في هذا الإطار.