تسود المراوحة الميدان، منذ يومين، في ظلّ غياب أيّ إشارات دالّة على إمكان إحداث تغيير في التكتيك الذي تتبعه إسرائيل في حربها على غزة، وهو ما يمكن عزوه إلى حالة التردّد والارتباك في اتّخاذ القرارات، سواء على المستوى السياسي أو ذلك العسكري، وتحديداً لناحية الإقدام على خطوة التوغّل برّاً. خطوةٌ لا تزال، إلى الآن، مدار أخذٍ وردّ وتنبؤات، وقول الشيء ونقيضه في تل أبيب، التي لم تستطع إخفاء خشيتها من «المناورة البرّية»، على رغم الجهود الهائلة المبذولة لتبديد هذا الانطباع، ما من شأنه التأثير على مجريات الحرب ونتائجها. وبرز، كذلك، تقاذفٌ للمسؤوليات عن الفشل السابق واللاحق للسابع من تشرين الأول، في إشارة مبكرة إلى ما ستشهده إسرائيل في اليوم التالي للحرب، فيما ترتفع نبرة الحديث أكثر فأكثر لتتجاوز التعبيرات المعتادة والاتهامات ذات السقوف المتوقّعة، مع طرح أسئلة تشكيكية حول قدرة الجيش الإسرائيلي على «تأمين البضاعة»، إن طُلب منه الحسم عبر «المناورة البرية»، والقادرة وحدها نظريّاً، على عكس الهزيمة الإسرائيلية إلى انتصار.وتُعدُّ المراوحة، معطوفةً على التردّد في اتّخاذ القرارات والامتناع عن المبادرة السريعة، سِمة صاحبت إسرائيل في كلّ حروبها ومواجهاتها العسكرية منذ عقود، وتحديداً عندما يتعلّق الأمر بـ«المناورة البرية». وإذا كان التردُّد في الماضي مفهوماً ويمكن تفسيره، إلى هذا الحدّ أو ذاك، إلّا أن المعادلة الآن مغايرة: إذ مهما كبرت الخسائر، من جهة إسرائيل، في هذه الحرب تحديداً، فإن الامتناع عن التحرّك برّاً يعني دفع أثمان أكبر بما لا يُقارن لاحقاً، وتحمُّل تداعيات ممتدّة على أكثر من مستوى وفي أكثر من اتّجاه. ومن هنا، باتت الأسئلة التي تطفو على السطح، بما خصّ «المناورة البرية»، تلقى أهميّة مضاعَفة لدى المتابعين، خاصّة أنها خرجت عن السجال المعتاد بين المختلفين والمتخاصمين، ووجهات النظر المتعدّدة بين مؤيّد ومعارض، وتحوّلت إلى تحذير من ويلات الآتي، إنْ دخل الجيش إلى غزة، وفقاً لتوقّعات الجمهور الإسرائيلي. ولا تركن التحذيرات فقط إلى الخسائر البشرية المتوقّعة - وإنْ كانت هذه الأخيرة تمثّل، بلا ريب، سبباً للتردّد والإرباك -، ولا إلى الفشل النسبي أو الكلّي المحتمل في تحقيق هدف سحق حركة «حماس» وفصائل المقاومة في القطاع - وهو سبب يُعتدُّ به -، بل تستند أيضاً إلى ما يَرِد عن بعض الإسرائيليين والأميركيين، من أن «الجيش الإسرائيلي غير جاهز وغير قادر» على خوض تلك الحرب.
رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، أراد أن «يضع النقاط على الحروف»، إلّا أنه أكّد ما سعى إلى نفيه


في آخر إطلالة إعلامية لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، أراد، كما قال، أن «يضع النقاط على الحروف»، إلّا أنه أكّد ما استهدف نفيه: لا قرار مُتّخذاً بالدخول البرّي، ولا رؤية مشتركة توصّل إليها الجيش مع المؤسّسة السياسية، حول شكل المرحلة المقبلة. أمّا أهم ما ورد في كلامه، فهو التشديد، إلى حدّ الإفراط المثير للتساؤلات، على أن الجيش جاهز لـ»المناورة البرّية» التي لم يبادر إليها، على رغم كلّ ما قيل عنه وعنها. لكنّ الحقيقة أنه لو كان هذا الجيش قادراً بالفعل على البدء بالهجوم، لما كان الارتباك والمراوحة قائمَيْن، ولبادر بلا إبطاء إلى التنفيذ، على رغم كلّ ما يردّده المستوى العسكري، منذ أيام، لناحية تأكيد جهوزيته، وأنه سينجز المهمّة إنْ طُلب منه ذلك، وهو تأكيد جرى الإفراط فيه، إلى حدّ التسبّب في التشكيك في ما يُراد تثبيته. هل يعني ما تقدّم أن «المناورة البرية» باتت منتفية؟ حتماً لا، لكن هذه المناورة صارت محصورة ومحدودة قياساً بالسقوف التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون، وتوقّعات الجمهور الإسرائيلي، في الأيام الأولى، وهي باتت ترمي إلى ثلاثة أهداف:
- أولاً، أن تتحقّق بذاتها؛ إذ لا يمكن إسرائيل أن تنهي الحرب بلا دخول برّي إلى غزة، سواء بهذا الشكل أو ذاك، تحت طائلة تبعات مُرّة في اتجاهَين: تردٍّ أكبر في نظرة المستوطنين إلى جيشهم، وتردٍّ أكبر في نظرة الآخرين، أعداء وحلفاء، إلى هذا الجيش.
- لا يمكن إسرائيل أن تفاوض الفلسطينيين، في ما يتعلّق بالترتيبات السياسية والأمنية في قطاع غزة، من دون رافعة ضغط يؤمّنها الدخول البرّي، وإنْ كان دخولاً محدوداً نسبياً، قياساً بما كان يُراد له أن يكون.
- كذلك، لا يمكن إسرائيل أن تحدّ من سقوف المطالب الفلسطينية، في ما يتعلّق بصفقة الأسرى، من دون ورقة ميدانية، كبُرت أو صغُرت، من شأن الدخول البري أن يوفّرها، وإنْ كان محدوداً.
لكن هل ثمّة احتمالات تتعلّق بانتفاء الدخول البري؟ يتعذّر ترجيح هكذا احتمالات، استناداً إلى ما ورد من أسباب. لكن إنْ كان الأمر كذلك، وإنْ كانت الأمور ستستقرّ على إنهاء الحرب بلا دخول إسرائيلي برّي إلى قطاع غزة، حتى من أجل تحسين الموقف في مرحلة التفاوض اللاحق على الترتيبات في القطاع، فستكون العواقب وخيمة جداً على الكيان. وفي حالة كهذه، ستكون العوامل المسبّبة للامتناع عن الدخول البرّي عالية الخطورة، ومؤثّرة جداً، بما يفوق قدرة التحمّل لدى إسرائيل والولايات المتحدة مجتمعتَين.